Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

تعليق واحد

الإمام القرطبي… عالم الأندلس ومفخرتها

      أخلاق القرطبي وزهده

      كان القرطبي رحمه الله من عبّاد الله الصالحين العارفين، وعلماء الإسلام الورعين العاملين، زاهدا في الدنيا، مشغولا بما يعينه على أمور الآخرة، أوقاته معمورة ما بين توجّه وعبادة وتصنيف، وكان طارح التكّلف، يمشي بثوب واحد على رأسه طاقية[1].

      غير أن القرطبي وإن كان رجل زهد وعبادة، وتواضع جمّ وبساطة، إلا أنه لم يكن معرضا عن الدنيا وما فيها، بل راغبا في حلالها، مبتغيا لطيب كسبها، مبتغيا في ما آتاه الله الدار الآخرة، غير ناس نصيبه من الدنيا. ولا أدل على ذلك من اشتغاله بحمل التراب على الدواب، وتحمله في ذلك المشاق والعذاب، وانتسابه لأب فلاح يتعب وينصب، بل إن الإمام القرطبي ألّف كتابا يحثّ فيه المسلمين على كسب الحلال، والعمل والسعي وراء الرزق، أسماه: “الحرص على قمع الحرص بالزهد والقناعة، وردّ السؤال بالكسب والصناعة”.

      ومن يطالع كتب القرطبي يتبين له أن دعوته هذه كانت محكومة بشرط عدم الإفراط، وتلافي الانقياد مع شهوات الدنيا على حساب أمور الآخرة، ولقد حكى الإمام القرطبي عن غرائب ما يصنعه المال بعُبّاده أمورا عجيبة، نذكر منها:

      يقول الإمام القرطبي: “لقد حُكي لنا أن بعض السماسرة جاء عند الموت فقيل له: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول: ثلاثة ونصف، أربعة ونصف، غلبت عليه السمسرة.

      ولقد رأيت بعض الحساب وهو في غاية المرض يعقد بأصابعه ويحسب.

      وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول: الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا، والجنان الفلاني اعملوا فيه كذا…

      وقيل لآخر: قل لا ّإله إلا الله، فجعل يقول: البقرة الصفراء، غلب عليه حبّها، والاشتغال بها. نسأل الله السلامة والممات على الشهادة بمنّه وكرمه”[2].

      المطلب الرابع: شيوخه وتلامذته.

      إن لأخذ العلم من أفواه الرجال لشأن عظيم، بل هو المنهج القويم في تكوين الطالب الفذ والعالم النحرير، ولا ينكر هذا إلا متعصّب جاهل، أو متخاذل متحايل، وقديما قيل:

      إذا طلبت العلـــــوم بغيـر شيـــخ          ظللت عـن الطريق المستقيـــم

      وتلــتبس الأمــــــور عليــك حتى          تصيـــر أضل من تومـــا الحكيـــم

      وقد يسّر الله تعالى للإمام القرطبي ثلة من العلماء الأفاضل الذين أثروا معارفه، ووسعوا مداركه، وساعده على ذلك ترحاله الدائم، سواء في بلاد الأندلس – موطن نشأته – أو ببلاد مصر – موطن مماته – أو غيرهما من البلاد التي دخلها.

      ومن أبرز شيوخ الإمام القرطبي نذكر ما يلي:

      •  الإمام أحمد بن عمر القرطبي: وهو أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر الأنصاري القرطبي المالكي، أحد كبار مشايخ الأندلس وعلمائها المحققين، واشتهر بابن المزين، وكان قد رحل إلى بلاد المشرق رفقة أبيه طلبا للعلم، وتأدية لفريضة الحج، فسمع كثيرا بمكة والمدينة والقدس ومصر… وغيرها من بلاد الإسلام العريضة، إلى أن استقر به المقام بالإسكندرية يحدّث بها ويدرس[3]. وقد استفاد القرطبي من علمه الواسع مشافهة، ثم من كتبه مطاعة ومدارسة، حتى كان كثير الإحالة عليه في كتبه –وخاصة الجامع والتذكرة-

      •  الإمام ابن أبي حجّة: وهم أبو جعفر أحمد بن محمد بن محمد التيسي، أحد أقطاب قرطبة العتيقة، ووافدي إشبيلية، تصدّي لإقراء القرآن وتعليم العربية، استفاد القرطبي من علمه أيما استفادة، وابن أبي حجّة لقب غلب على جدّه، ثمّ صار في عقبه، ويكنى أبا جعفر[4].

      •  الإمام أبو الحسن علي بن قطرال: وهو العلامة الافهامة أبو الحسن علي بن عبد الله بن محمد بن يوسف الأنصاري القرطبي المالكي، كان علمه غزيرا، وفضله عظيما، ولي القضاء ببلدة صغيرة في الأندلس، وقد أحال القرطبي عليه في تفسيره عند ذكره لقصة استشهاد والده[5].

      •  الإمام أبو محمد بن رواج: وهو ظافر بن علي بن فتوح الأزدي القرشي، أخذ عنه القرطبي أصنافا من العلوم، وسمع منه بمسجد بثغر[6].

      •  الإمام أبو عامر الأشعري: وهو أبو عامر يحيى بن عبد الرحمن بن أحمد بن ربيع الأشعري، كان من العلماء الفحول، والقضاة العدول، أخذ القرطبي من علمه، ونال من فضله وحسن خلقه[7].

      •  الإمام أبو علي الحسن البكري: وهو أبو علي الحسن بن محمد البكري الشيعي النيسابوري ثم الدمشقي، من العلماء المحققين، والعارفين المطلعين، له رحلات عظيمة في طلب العلم، وأخذ عنه القرطبي في مصر[8].

      •  الإمام أبو الحسن علي اللخمي: وهو أبو الحسن علي بن هبة الله اللخمي، الشهير بابن الجيزي، كان رجلا عالما، وفقيها جليلا، شهد بالعلم له أقرانه، وأذعن له الخاص والعام، اقتبس القرطبي من سمته وهديه وفيض علمه في مصر[9].

      هؤلاء سبعة من أشهر مشايخ القرطبي، والقائمة  بذكر غيرهم تطول، ولكن نكتفي بهؤلاء على سبيل المثال لا الحصر، ولنسق الكلام عن تلامذة القرطبي، طالبيه ومحّصلي علمه، فنقول وبالله التوفيق:

      إن من شأن العلماء الكبار والفضلاء العظام –والقرطبي منهم– أن يلتف حولهم طلبة العلم في كل حين، ويقصدونهم من كل حدب وصوب، وتشغلهم حلقات العلم أيما شغل، وتأخذ منهم الفتوى مأخذها، والإمامة نصيبها… وكذلك كان شأن الإمام القرطبي. فقد كان حريصا على تبليغ ما حصّل من أدب وعلم، فأمثاله لا يخفى عليهم أن العلم:

      يزيد بكثرة الإنفــــاق منـــه          وينقص إن بـه كفــا شددت

      وعلى هذا يكون تلامذة القرطبي قد بلغوا العدد الوفير، والجمع الغفير، مما يغني معه ذكر القليل منهم أو الكثير.

      مؤلفات الإمام القرطبي وما أُلف حولها من الدراسات

      أما عن مؤلفات القرطبي وآثاره العلمية فوفيرة مفيدة، فقد كان رحمه الله من المكثرين في التأليف، مستقصيا مجيدا مفيدا في ذلك، ويكفيه فخرا شهادة العلماء العظام له بذلك، يقول عنه الإمام الذهبي: “إمام متقن متبحر في العلم، له تصانيف مفيدة، تدل على إمامته وكثرة اطلاعه، ووفور فضله”[10].

      وقال فيه ابن فرحون: “أوقاته معمورة ما بين توجّه وعبادة وتصنيف”[11].

      ومن أشهر مؤلفات القرطبي نذكر ما يلي:

      •  الجامع لأحكام القرآن المبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان

      وهو ذلك الكتاب النفيس المشهور المتقن المفيد، من أبرع كتب التفسير وأجودها، قال عنه ابن فرحون: “وهو من أجل التفاسير، وأعظمها نفعا، أسقط منه القصص والتواريخ، وأثبت عوضهما أحكام القرآن، واستنباط الأدلة…”[12].

      ولقيمة هذا المصنف العلمية، ومكانة صاحبة السامية، ارتأينا أن نجعله محلا للبحث والدرس، وذلك بالعكوف على استخراج ما فيه من قواعد أصولية وتطبيقاتها الفقهية، والله تعالى نسأل التوفيق والسداد.

      •  التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة:

      وقد قام بتحقيقه الدكتور أحمد حجازي السقا، ونشرته دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة، ودار الفكر ببيروت، وهو كتاب مفيد في بابه، غزير الأحاديث، عامر بالحكم والعظات والأحكام، أحال عليه القرطبي كثيرا في تفسيره[13].

      •  التذكار في أفضل الأذكار:

      وقد حققه وخرّج أحاديثه عبد القادر الأرناؤوط ف في جزء واحد، بإشراف إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 1979م الرياض. كما حققه ثروة محمد نافع – دار التوحيد 1979م. قال الداودي عنه في طبقاته: “وضعه –يقصد القرطبي– على طريقة التبيان للنووي، لكن هذا أتم منه وأكثر علما”[14].

      •  قمع الحرص بالزهد والقناعة وردّ السؤال بالكسب والشفاعة.

      ألفه القرطبي قصد حث الناس على الكسب الحلال، وعدم التخاذل والرضا بالذل والسؤال. حققه وعلّق عليه مسعد محمد السعدي، ونشرته دار الكتب العلمية ببيروت، ويقع في جزء واحد.

      •  يوم الفزع الأكبر: مشاهد يوم القيامة وأهوالها.

      وقد نشرته مكتبة القرآن بالقاهرة سنة 1985م، وقدم له وعلق عليه محمد إبراهيم، ويقع في جزء واحد.

      •  الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى.

      قام بتحقيقه محمد حسين جبل وطارق أحمد محمد، ونشرته دار الصحابة بطنطا بمصر عام 1995م، وقد أحال عليه القرطبي غير ما مرة في تفسيره[15].

      •  الإعلام بما في دين النصاري من الأوهام، وإظهار محاسن الإسلام، وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم:

      قام بتحقيقه أحمد حجازي السقا، ونشرته دار التراث العربي – القاهرة عام 1980م.

      •  الإعلام بمولد النبي عليه السلام:

      خلص الباحث الحسين ازكيت إلى أن القرطبي قد أحال عليه في موضعين من جامعه[16].

      •  المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس.

      وقد أحال عليه الق رطبي في تفسير[17]، والظاهر –حسب اطلاعي- أنه لم يحقق.

      •  أرجوزة في أسماء النبي صلى الله عليه وسلم.

      وقد نسبها له ابن فرحون في ديباجه[18].

      هذه جملة من كتب ومؤلفات القرطبي، ولعل القيمة العلمية للموجود منها يوحي بجودة المفقود…

      ونظرا لقوة عارضة القرطبي في علوم الآلة والشريعة، تهافت الناس في القديم والحديث على مصنفاته، فاشتغلوا عليها بكل أشكال الدراسات العلمية، إما تحقيقا لها وهو الغالب، وإما شرحا وبيانا، وإما إيجازا واختصارا، وإما جمعا لاختياراته وتصنيفا، وإما استخلاصا لفوائدها واستجلاء لقواعدها… ومما وقفت عليه من ذلك:

      •  الإعراب والاحتجاج للقراءات في تفسير القرطبي:

      لعبد القادر بن محمد بن محمود الطفيل، تحت إشراف الدكتور إبراهيم عبد الله رفيدة بطرابلس – ليبيا، منشورات كلية الدعوة الإسلامية 1977م، وعدد صفحاته 457 صفحة.

      •  مختصر تذكرة القرطبي:

      للإمام الشعراني، وراجعه عبد العزيز سيّد، مطبعة الحسين المشهد – القاهرة.

      •  مختصر تفسير القرطبي” اختصار ودراسة وتعليق”:

      للشيخ محمد كريم راجع، دار الكتاب العربي 1987م، وهو في خمسة أجزاء.

      •  جامع الأحكام الفقهية للإمام القرطبي “جمع وتصنيف”:

      لفريد عبد العزيز الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 1414هـ/1994م.

      •  التفسير الفقهي عند الإمام القرطبي:

      للباحث بوشعيب محمدي، تحت إشراف الدكتور الشاهد البوشيخي، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، وهي عبارة عن رسالة علمية لنيل دبلوم الدراسات الإسلامية العليا لعام 1410/1411هـ.

      •  مفهوم المخالفة عند القرطبي:

      للباحث الحسين ازكيت، تحت إشراف الدكتور علال الهاشمي الخياري، وهو رسالة علمية لنيل دبلوم الدراسات الإسلامية العليا بدار الحديث الحسنية – الرباط، مرقون برمز: أصول: أ. 1505. 55 – 1419هـ.

      •  القرطبي ومنهجه في التفسير:

      للدكتور أقصبي محمود زلط، المركز العربي للثقافة والعلوم، بيروت – لبنان.

      •  القرطبي حياته وآثاره العلمية ومنهجه في التفسير:

      للدكتور مفتاح السنوس بلقلم، منشورات جامعة خان يونس ببنغازي، نشر دار الكتب العلمية 1998م.

      •  تسهيل الوصول إلى معرفة أسباب النزول الجامع بين روايات الطبري والنيسابوري وابن الجوزي والقرطبي وابن كثير والسيوطي:

      لخالد عبد الرحمن العك، دار المعرفة – بيروت 1998م، عدد صفحاته: 407 صفحة.

يتبع إن شاء الله

————————————-

  1.  الديباج المذهب: 2/308.

  2.  التذكرة، ص: 50-51.

  3.  الديباج المذهب، ص: 69.

  4.  انظر الذيل والتكملة للمراكشي: 1/484، وشجرة النوار الزكية لابن مخلوف، ص: 182، والأعلام للزركلي: 1/219.

  5.  الجامع: 4/209.

  6.  له ترجمة في “شذرات الذهب” 5/242.

  7.  له ترجمة في “الذيل والتكملة” 5/318.

  8.  له ترجمة في “شذرات الذهب” 5/242.

  9.  له ترجمة في “شذرات الذهب” 5/246.

  10.  انظر “طبقات المفسرين للداودي” 2/66.

  11.  الديباج المذهب: 2/308.

  12.  الديباج المذهب: 2/309.

  13.  انظر مثل: 1/167 – 2/61 – 2/184… من الجامع.

  14.  طبقات المفسرين: 2/66.

  15.  انظر مثلا: 1/181 – 1/223 – 2/184 – 3/248 – 3/249… من الجامع.

  16.  انظر الجامع: 15/75 و 15/141 الطبعة الأولى لدار الكتب العلمية 1988م.

  17.  انظر مثلا 1/122 من الجامع.

  18.  انظر الديباج المذهب: 2/208-209.

التعليقات

  1. محمد عكاشة

    سيدي الفاضل.هناك شرح للامام القرطبي للصلاة التفريجية.هل يمكن ان تدلني علي اسم الكتاب الذى يحتوى على هذا الشرح؟ ولكم جزيل الشكر

أرسل تعليق