Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

هوادي التعرّف.. (52)

المبدأ الثامن في طريق التصوف

التحلي بمقامات اليقين (8): بيَّن الناظم رحمه الله مقامات اليقين بذكر أسمائها، فقال:

خَــــوْفٌ رَجَــا شُكْرٌ وَصَبْـرٌ تَوْبَةٌ        زُهْـــدٌ تَــوَكُّـــلٌ رِضَـا مَحَــبَّـــةٌ

وأما المحبة فلكل مؤمن سالك نصيب منها على قدر قوة إيمانه. قال تعالى: “وَالَذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا للّهِ” [البقرة، 164]، وقابل عز وجل الحب بالحب غايةً في الجزاء فقال: “يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ” [المائدة، 54]، كما توعد من آثر وفضّل أهله وقرابته وعشيرته على محبة الله ورسوله. فقال: “قُلْ اِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اِقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَاتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ” [التوبة، 24].

وسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ قال: “أن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما[1]، وفي حديث آخر: “لا يؤمن العبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين[2]. كما أمر صلى الله عليه وسلم بالمحبة فقال: “أحبوا الله تعالى لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني بحب الله تعالى[3]، وكان من دعائه عليه السلام: “اللهم ارزقني حبك، وحب من يحبك، وحب ما يقربني إلى حبك، فاجعله أحب إلي من الماء البارد[4]. وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: “ما أعددت لها؟” قال: ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله تعالى ورسوله، فقال له عليه الصلاة والسلام: “المرء مع من أحب[5]، قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك.

لذلك قال يحيى بن معاذ: “مثقال خردلة من الحب أحب إليّ من عبادة سبعين سنة بلا حب[6].

ومحبة الله أعلى المقامات وغاية المطلوبات. قال حجة الإسلام: “المحبة لله تعالى هي الغاية القصوى من المقامات، والذروة العليا من الدرجات، فما بعد إدراك المحبة لله تعالى مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها، وتابع من توابعها؛ كالشوق والأنس والرضا وأخواتها، ولا قبل المحبة مقام إلا وهو مقدمة من مقدماتها؛ كالتوبة والصبر والزهد وغيرها”[7]. وفي لطائف المنن للسكندري: “المحبة هي من أجل مقامات اليقين حتى اختلف أهل الله: أيهما أتم، مقام المحبة أو مقام الرضا، وإن كان الذي نقول به: إن مقام الرضا أتم؛ لأن المحبة ربما حكم سلطانها على المحب، وقوي عليه وجود الشغف، فأدّاه ذلك إلى طلب ما لا يليق بمقامه، ألا ترى أن المحب يريد دوام شهود الحبيب، والراضي عن الله راض عنه أشهده أو حجبه، فالمحب يحب دوام الوصلة، والراضي عن الله راض عنه وَصَلهُ أو قطعه، إذ ليس هو مع ما يريد لنفسه، بل إنما هو مع ما يريد الله له، المحب طالب لدوام مواساة الحبيب، والراضي لا طلب له”[8].

فإذا تمكنت المحبة من القلب ظهرت آثارها على الجوارح طاعةً واستقامةً، وحرصا على مرضاته، وتلذذاً بمناجاته، ورضاً بقضائه، وشوقا إلى لقائه، وأنسا بذكره..

قال الشيخ زروق في شرح الحكم: “المحبة هي أخذ جمال المحبوب بحبة القلب حتى يتعدى ذلك إلى الجوارح فتكون في طوع المحبوب، كما قيل: أبت المحبة أن تستعمل محبا لغير محبوبه، ولا يجد مساغا للالتفات لسوى المحبوب”[9].

وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: “المحب على الحقيقة من لا سلطان له على قلبه لغير محبوبه، ولا مشيئة له مع مشيئته[10].

وقال ابن عباد الرندي: “قيل لبعض المحبين، وكان قد بلغ المجهود في بذل ماله ونفسه حتى لم يبق منه بقية: ما كان سبب حالك هذه في المحبة؟ فقال: كلمةٌ سمعتها من خلق لخلق عَمِلت فِيَّ هذا البلاء! قيل: وما هي؟ قال: سمعت مُحبّاً خلا بمحبوبه وهو يقول: أنا والله أحبك بقلبي كله وأنت تعرض عني بوجهك كله! فقال له المحبوب: إن كنت تحبني فأي شيء تنفق عليّ؟ فقال: يا سيدي، أُملكُك ما أملك، ثم أُنفقُ عليك روحي حتى أهلك، فقلت: هذا خَلقٌ لخلق وعبدٌ لعبدٍ، فكيف بخلق لخالق، وعبدٍ لمعبود؟ فكان هذا سببه[11].

وقال ابن عطاء الله: “من علامة محبة الله للعبد محبة العبد إياه، ومن علامة محبة العبد لله أن لا يؤْثر عليه شيئا سواه، ومن عدم الإيثار على الله تعالى النظر إلى الدنيا بعين الاحتقار وإلى الأكوان ببصر الاعتبار، والسعيد من أعطاه الله قلبا مفكرا، وبصرا معتبرا، وأذنا تسمع من الله، ونفسا ناشطة لخدمة الله[12].

وقال الجنيد: الناس في محبة الله عوام وخواص:

  • فالعوام قالوا ذلك لمعرفتهم بدوام إحسانه وكثرة نعمه، فلم يتمالكوا أن أحبوه، إلا أنهم تقل محبتهم وتكثر على قدر النعم والإحسان؛
  • فأما الخاصة فنالوا المحبة بعظم القدر والقدرة والعلم والحكمة والتفرد بالملك، فلمّا عرفوا صفاته الكاملة وأسماءه الحسنى لم يمتنعوا أن أحبوه إذ استحق عندهم المحبة بذلك، لأنه أهل لها وإن أزال عنهم جميع النعم”[13].

وحاصل الأمر أن المحبة وما قبلها من مقامات اليقين هي أساس كل خير، وهي عنوان السير والسلوك، لذلك ينبغي على المريد السالك أن يتسبّب فيها، حتى إذا وجدها، أوقفته بين يدي الله وقالت له ها أنت وربك..

—————————————–

1. رواه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، ح: 6041.

2. رواه الترمذي في السنن، كتاب المناقب، ح: 3722.

3. رواه الترمذي في السنن كتاب الدعوات، ح: 3412.

4. نفسه، ح: 3490.

5. رواه البخاري في كتاب الأدب، ح: 5702، ومسلم في كتاب البر والصلة، ح: 4779.

6. إحياء علوم الدين، 4/218-219.

7. نفسه، 4/217.

8. لطائف المنن لابن عطاء الله السكندري، ص: 38.

9. شرح الحكم العطائية لأحمد زروق، ص: 212.

10. الرسالة القشيرية، ص: 312-313، وغيث المواهب العلية لابن عباد الرندي، ص: 300.

11. غيث المواهب العلية، ص: 300.

12. لطائف المنن، ص: 38.

13. إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، 4/236.

أرسل تعليق