نـفـحـات مـن الـقـرويـيـن
يقف المرء وقفة إجلال وإكبار أمام أعلام جامعة الـقـرويـيـن العامرة، أعلام جهابذة نبغاء فقهاء وعلماء، ويقف المرء وقفة تأمل ونظر أمام الثراث الزاخر الذي خلفه أولئك العلماء في مختلف المجالات والعلوم، فلماذا هذا التأمل والنظر؟ ولماذا ذاك الإجلال والإكبار؟.
لقد استطاع علماء الـقـرويـيـن على مر العصور أن يثبتوا جدارة، وكفاءة، ونباهة، وذكاء، غير مسبوقين، يُعلم ذلك من خلال جهودهم التي بذلوها في التأليف، والتصنيف، والتدريس، والنظر، والاجتهاد، مسخرين في ذلك كل ما يمكن أن يُسهم في خدمة العلم وأهله، ذلك أنهم اغنوا رصيدهم العلمي والمعرفي، إما بشد الرحال إلى مدن وبلدان، أو إلى علماء بعينهم اشتهروا بالعلم والفقه، أو باستقبال آخرين اختاروا هم بدورهم أن يشدوا الرحال إلى فـاس وتحديدا لجامعة الـقرويـيـن للنهل من علومها، والاستفادة من شيوخها، نظرا لاشتهارها وذيوع صيتها بين سائر البلدان والأقطار.
إن إلقاء نظرة خاطفة، والقيام بجولة قصيرة بين مصنفات ومؤلفات علمائنا الأجلاء رحمهم الله تمكنك من معرفة الثراء المعرفي والفكري الذي تميزوا به على اختلاف الأزمنة والفترات والظروف والأحوال.
إن وقوفنا أمام كل ذلك -وغيره كثير- يوقظ بداخلنا إحساسا بالتقصير، كما يوقظ شعورا بالعجز عن أن نوفيَ ذلك الجيل حقه، ولو بالتعريف بهم، خاصة أولئك الذين اندرست سِيَرهم مع مرور الأيام والحقب والأزمان، واندثرت معها عطاءاتهم وجهودهم.
نحن اليوم مهما بذلنا من جهد في النظر في هذا الثراث، تحقيقا ودراسة؛ فإن كل مجهوداتنا ستجعل منه منطلقا وأرضية لها، وسيكون دورنا متمثلا بالأساس في إيجاد طرق وسبل لإخراج تلك الجهود الطيبة، إلى حيز الوجود أولا؛ لأن الكثير من المخطوطات لا يزال حبيس المكتبات العامة والخاصة لا يعرف أصحابها قيمتها، فتبقى عرضة للأرضة، وبالتالي التلف والاندثار، وهي بحاجة إلى من يخرجها لترى النور، وتكون بين يدي الراغبين والمهتمين، أما ثانيا فالتقريب والتيسير والتسهيل ما أمكن، وتسخير كل ما من شأنه تحقيق ذلك وتقديمه للمبتدئ في طلب العلم كالمنتهي أو المواصل في طلبه على حد سواء.
لقد استطاع علماء القـرويـيـن رحمهم الله القيام بالمسؤولية المنوطة بهم على أكمل وجه، وأداء الأمانة التي حملوها أحسن أداء، لحبهم وشغفهم الشديد بطلب العلم، ولحسن نيتهم، وصدق قصدهم، وسلامة سريرتهم، فكانت الـقـرويـيـن العامرة جامعا يقصده المصلون لأداء صلواتهم، كما كانت جامعة تجذب أولئك المصلين أنفسهم بعد أداء شعائرهم الدينية وغيرهم، لحضور جلسات العلم والتفقه بكل ضروبه وفنونه، خاصة أنها كانت تجعل من أوقات الصلاة جدولا زمنيا لحلقات الدرس، يقصده كل من عشق مجالسة العلماء، وأحب التردد على أهل العرفان.
رحم الله السيدة فاطمة الفهرية، وجازاها الله عنا أوفى الجزاء، وجعل عملها صدقة جارية لها، وجعلها قدوة وأسوة لبنات سائر المسلمين في الجود والبذل والعطاء، وجعلنا الله مع القوم الذين لا يشقى بهم جليسهم.
أرسل تعليق