Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

عبد الواحد السجلماسي.. (2)

بعد فترة التحصيل الأساسي بدرعة وما ارتبط بها من تربية صوفية أخلاقية إنسانية، تاقت نفس صاحبنا السجلماسي إلى لقاء أساطين العلم والمعرفة بمحروسة فاس، والحق أن الإضافة النوعية في تكوينه قد تحصلت خلال وصوله إلى مدينة  فاس التي يظهر أنه قصدها عدة مرات، وأنه كان يستغل مقامه بها لإشباع حبه للعلم، وتحصيل إجازة كبار الشيوخ بأسانيدهم العالية، ففيها أخذ مباشرة عن الشيخ الشهير رضوان الجنوي سنة 982/75- 1574 ونال إجازته الخاصة في الحديث المسلسل بالأولية، والمصافحة بطريقيها، وفي كل المصنفات التي نقف عليها في هذا فهرس “الإلمام ببعض من لقيته من علماء الإسلام” ثم عمم له على عادة الشيوخ ما اشتملت عليه فهرسة الشيخين ابن غازي وابن حجر، ويظهر أن هذه الإجازة كانت المبتغى الذي اجتهد في الوصول إليه والمادة العلمية التي جعلته يؤسس لتدوين سيرته التعليمية انطلاقا منها وقد استوفى ترجمة هذا الشيخ بشكل ملحوظ، وحرص على تعيين شيوخه، وإجازته، وأسانيده المغربية والمشرقية، ثم نقل نصوص بعضها[1].

وبمحروسة فاس التقى بالشيخ الكبير سيدي أحمد المنجور وأخذ عنه، ويتوقف عبد الواحد السجلماسي في  فهرسه الإلمام مع شيخه العالم الكبير أحمد المنجور فيذكر صفاته العلمية وتقدمه في علم الكلام بعد أن قرأ عليه مقدمة السنوسي وكذا كبراه وصغراه. وقد سبق أن كتبت مقالة عن الإمام المنجور في العدد 73 من “جريدة ميثاق الرابطة“، فليرجع إليه للتعرف على العالم الفذ. وكان الإمام أحمد المنجور قد تتلمذ على خيرة علماء فاس منهم اليَسِّيتني، وهو عمدته، والعلامة الخطير أبو زيد عبد الرحمن سُقَيْن، وأبو الحسن ابن هارون، والعالم الكبير النوازلي عبد الواحد الونشريسي والإمام الزَّقاق، وغيرهم ممن حفل بهم فهرسه الشهير الذي يتبين من خلاله حرصه وجديته في طلب العلم، فقد استطاع الإمام أحمد المنجور التعمق بنفس موسوعي عال في معظم علوم عصره كعلم الأصول والفقه، والتاريخ والسير، وعلم الحديث، وطبقات العلماء، وعلم البيان، والحساب، والمنطق.

 يقول الشيخ أبو عبد الله محمد المدرع في منظومته في صلحاء فاس:

وأحـمـــــد إمامنـــــا المنجــــور          سؤدده بين الورى مشهــــــور

كـان رئيس العلم في المعقول          والفقـــــه والبيـــــان والأصــول

من تلاميذ الإمام المنجور قاضي الجماعة الفقيه أبو عبد الله الرجراجي، والقاضي إبراهيم الشاوي، وقاضي الجماعة بفاس بلقاسم ابن النعيم، وقاضي سلا ومكناس أحمد ابن أبي العافية الشهير بابن القاضي صاحب درة الحجال، وجذوة الاقتباس، لازمه طويلا، وإبراهيم الأمغاري دفين كيك بنواحي مراكش المعروف عند الناس باسم مولاي إبراهيم، وبالطبع صاحبنا عبد الواحد السجلماسي. ومن هذه اللمحة المختصرة عن تلاميذ المنجور، نقترب من بعض الأجواء العلمية والتربوية والروحية التي عاشها عبد الواحد السجلماسي بمدينة فاس، وندرك أيضا أفضال الإمام المنجور على البلاد والعباد. قال عبد الواحد السجلماسي في الإلمام عن شيخه أحمد المنجور عن: “فلا تسأل عن تحققه، وقوة إدراكه، واستحضاره لكلام أهل هذا الفن”، وقد انتفع به في علوم الحساب والمنطق والعروض، والتاريخ والأدب. وكانت طريقته هي طريقة المحاضرة التي تعتمد على حسن العرض وتنسيق المضامين مع التعريف بآراء المتقدمين ومناقشتها والترجيح عند الاقتضاء ولعل إشارات السجلماسي تضاف إلى ما جاء من إشارات المتخرجين الواصفين لهذه الدروس، وخاصة في تقرير الأسانيد والتعريف بالرجال، والتحليل الذي كان يشمل المتن واللفظ والمعنى والرواية قبل استنباط الأحكام وغير ذلك من الفوائد.

وقد خص السجلماسي في فهرسه بالذكر أيضا الشيخ محمد ابن مجبر المساري حامل لواء علم النحو حفظا وبحثا وتحقيقا. فقد سمع عليه، وحضر دروسه عدة مرات، وهو من أبرز شيوخ عصره في القراءات وقد قال عنه: “تحلى بحلية تامة من السكون والوقار، وأخلاق دمتة، وعليه المدار بقطره في تحقيق القراءات السبع ومعرفة أحكامها، والوقوف على كلام أهلها“، كما أنه علم من أعلام النحو متمكنا من ألفية ابن مالك إذ كان “يضرب أولها بآخرها ويستخرج الأحكام من مفاهيمها وإشاراتها.. ترتفع في مجليه للأبحاث النحوية سوق نافقة.. ويتحف المتعلمين بتقاييده وفوائده، ويمدهم بغرائبه وفرائده فترى الأقلام في أيدي الطلبة في مجلس درسه راكعة في المحابر وساجدة[2]، فالمؤلف يؤكد إعجابه بشيخه، وإن كانت طريقة ابن مجبر في طريقة حك المسائل التي انتشرت بكثرة في النهج التعليمي السعدي حيث يهتم أصحابها بتقليب المسائل المنظور فيها وجلب النقول والمناقشات، وإن كان سيدي ابن مجبر يمزج بين الإلحاح في البحث والتبسيط المطلوب..

وعبر هؤلاء الشيوخ الذين ترجم لهم السجلماسي في الإلمام نقرأ سيرة علمية واسعة لرجال هذا الدور، ونعرف أن المؤلف أخذ بطريقة مباشرة عنهم، وعن عدد آخر من العلماء، وهو لم يغفل الإشارة إلى إسناده بطريقة غير مباشرة عن الشيخين محمد بن خروف التونسي، وعبد الرحمان سقين-أستاذ الإمام المنجور- إذ يروي عنهما بالتبعية لوالده. وهما إجازتان جمعتا أعلى مروياته الحديثية بالخصوص بطرق مغربية بينما كانت إجازته المشرقية غير مباشرة لعدم تمكنه من القيام بأية رحلة[3].

تقول نفيسة الذهبي في مقدمة تحقيق الإلمام: صاغ الشيخ عبد الواحد السجلماسي مقدمة فهرسه الإلمام بشكل موجز وبدون تعيين اسم المجاز كما جرت العادة في هذا الصنف من الكتابات، وقد توقف عند محنة وصفها بالضيق، وتفاقم الأهوال وهو بذلك يحيلنا على تداعيات أحداث لم يفصح عنها ولكنه لمح إليها، واعترف أنه جنى على نفسه وأتعب فكره فيما لا يعنيه حتى آل به الأمر إلى ما آل إليه. “الحال يغني عن السؤال، قد كان ما كان مما لست أدركه فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر“. ثم أضاف جملا تحمل نبرات الأمل في الخروج من هذه الأزمة العابرة.

ورغم رغبة السجلماسي في عدم طرح السؤال فإن ما يتبادر إلى ذهن قارئ الإلمام هو التساؤل عن نوع وحجم هذه المحنة، وعن حجم تأثيره بها فهو من أول خدام الدولة السعدية فقد عمل في البلاط منذ وقت بعيد عندما عين كاتبا عند الوزير محمد بن عبد القادر بن السلطان محمد الشيخ، في فترة خلافة السلطان عبد الله الغالب أي منذ سنة 965/1557 إذ ذكر ابن أخيه محمد ابن عبد القادر من بين وزراء دولته، كما أورد الإفراني في نزهة الحادي ما يفيد مرافقة عبد الواحد السجلماسي له في بعض أسفاره إلى مدينة فاس بمعية قاضي الجماعة الفقيه عبد الواحد الحميدي، والعلامة أحمد المنجور، وذكر لهم أبياتا شعرية قيلت عند دخول المدينة، نسب منها البيتان الأولان للوزير لكن الإفراني رجح أن يكونا من إنشاد عبد الواحد السجلماسي مما يوحي بأنه كان ضمن هؤلاء الرجال.

والواضح أن هذه الآثار تشهد على المستوى الذي أدركه عبد الواحد لغويا وأدبيا كما تستشف منها نوعا من الانسجام بين الوزير وصاحبنا السجلماسي إلى حدود وفاته في 20 جمادى الثانية عام 975/17 دجنبر 1567. تفيدنا نفيسة الذهبي في مقدمة تحقيق الإلمام أن هذا يجعلنا نرجح استبعاد دواعي الضيق والأهوال، لكننا مع نهاية عهد السلطان عبد الله الغالب الذي توفي في 27 رمضان 981/19 يناير 1574 ومبايعة ابنه محمد المتوكل قد نقرأ جانبا من طبيعة الظرفية العامة التي واكبت انتقال السلطة وتأثير ذلك على عموم الأحداث عندما واجه محمد المتوكل عنه أبا مروان عبد المالك الذي عاد معززا بجند الأتراك ولم يكد ينتهي عام 983/1576 حتى استطاع أن  يهزم محمد المتوكل ويدخل مدينة فاس. لذلك فصفحة السنتين المشار إليهما تعكس بعض تداعيات المرحلة الانتقالية والجو العام الذي قد يكون له تأثير على معاناة المؤلف خلال المرحلة القريبة من تاريخ تأليف “الإلمام ببعض من لقيته من علماء الإسلام“، فقد بدا شديد الحرص على الاتصال بشيخه رضوان الجنوي بداره بعدوة الأندلس لطلب الإجازة بغاية استدراك ما فاته من المرويات بعدما سبق له الجلوس إليه والاستفادة  من علومه في مرات سابقة، ويظهر أنه استعجل شيخه الذي وقع إجازته له بتاريخ محرم 982/1575 لينكب على تدوين الفهرس في نفس السنة فقد كان الفراغ منه في أواسط ذي الحجة 982/آخر فبراير1575، وقد جعل إجازة الشيخ الجنوي صدرا له “لأنها الأساس لما بعدها والمبنى والمدار الذي يرجع إليه في تصحيح لفظ ما يتصل بها والمعنى“..

تولى عبد الواحد السجلماسي خطة الفتوى بمراكش في عهد السلطان أحمد المنصور الذهبي، والملاحظ أن توليته الفتوى جاءت مباشرة بدون سابق ولاية القضاء، بينما كانت العادة أن يرقى القاضي إلى مرتبة مفت عندما تحمد سيرته بعد طول الممارسة والتجربة، كما نال مرتبة الإمامة والتدريس بجامع الأشراف في حي المواسين وقد لمع اسمه كمدرس، وكثر الآخذون عنه من العلماء والطلبة حتى عد شيخ الجماعة وآخر المحدثين بمراكش[4]، وأصبح من الأعلام الذين ساهموا بحظ وافر في ازدهار العلم والعمران..

وقد كان صاحبنا السجلماسي ضمن حاشية السلطان أحمد المنصور، وكان من جلسائه المقربين، وكان ينيبه عنه في قضايا المظالم التي كان المنصور يجلس لها بنفسه أيام الجمع بعد الصلاة، وكان السلطان يكلفه بتحرير بعض المراسلات والوثائق المهمة، وهو الذي أنشأ الرسالة التي وجهها لسكية سلطان بلاد السودان[5]، كما أن اسم الشيخ السجلماسي يندرج ضمن قائمة أدباء هذا العصر..

إننا إزاء رجل من رجال الدولة الكبار، جمع بين الخطط الشرعية، وبين المشاركة الفعلية في التعليم والتأليف[6]، والتربية والتثقيف، وصيغة كتابه الإلمام تشهد على أن هناك رغبة في توثيق ما جمعه من مرويات وإجازات وعزم على التدوين بغاية الإفادة وتيسير الروابط العلمية، والإسهام في مشروع الأمة المغربية المبني في أهم جوانبه على علاقة جدلية بين العلم والعمران بفضل من الله..

توفي رحمه الله يوم الخميس 25 رجب عام 1003ه بمحروسة مراكش ودفن بقبة الأشراف بجوار مقام الإمام القاضي عياض بباب أيلان، رحمه الله وجازاه عن المغرب والإنسانية خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه.

—————————————

1. انظر نفيسة الذهبي، مقدمة تحقيق “الإلمام ببعض من لقيته من علماء الإسلام”.

2. انظر الإلمام ص: 91، تحقيق نفيسة الذهبي.

3. لم تتحقق للمؤلف الرغبة التي عبر عنها في ص: 85 من مؤلفه بخصوص أداء فريضة الحج والأخذ المباشر عن العلماء المشارقة.

4. انظر الجوانب التي تناولها ع. ابن إبراهيم، الإعلام بمن حل بمراكش وأغمات من الأعلام، المطبعة الملكية ج8، ص: 523.

5. م. الإفراني، نزهة الحادي، ص: 259.

6. ذكر له أستاذنا المرحوم م. حجي عددا من المؤلفات. منها شروح ومختصرات تعليمية، وكذا ديوان أشعار أهل البيت الذي اخترمته المنية قبل إتمامه والذي يوجد بخط المؤلف في الخزانة الزيدانية بالإسكوريال إلى جانب عدد من التعاليق والمساجلات والقصائد، معلمة المغرب، المجلد 10.

أرسل تعليق