Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

تأملات في حرص العلماء على وقتهم.. ابن الجـوزي أنموذجا (تـ 597هـ) (2/2)

      إن من معالم وعي ابن الجوزي العميق بقيمة الوقت، قوله رحمه الله: “فكم يضيع الآدمي من ساعات يفوته فيها الثواب الجزيل، وهذه الأيام مثل المزرعة، فكأنه قيل للإنسان: كلما بذرت حبة أخرجنا لك ألف كر، فهل يجوز للعاقل أن يتوقف في البذر أو يتوانى”[1].

      قلنا فيما سبق إن الذي يكون له مشروع في حياته، يرغب في اتساع عمره لكل ما يود أن يقوم به من أعمال ترفع صرح ذلك المشروع. وقد كان هذا دأب ابن الجوزي رحمه الله، فمن دعائه لربه هذا الدعاء: “اللهم بلغني آمالي من العلم والعمل وأطل عمري لأبلغ ما أحب من ذلك”[2]. ومما يجرى هذا المجرى قوله رحمه الله: “فيا ليتني قدرت على عمر نوح؛ فإن العلم كثير، وكلما حصل منه حاصل، رفع ونفع”[3].

      ومن الإجراءات العملية التي اتخذها ابن الجوزي في سبيل تحقيق مطامحه لواذه بالعزلة، فكان كما ذكر عنه سبطه أبو المظفر: “يختم القرآن في كل سبعة أيام، ولا يخرج من بيته إلا إلى الجامع، للجمعة وللمجلس…”[4].

      فابن الجوزي رحمه الله يرى في العزلة واجتناب مخالطة الناس سبيلا إلى اجتماع الهم وإصلاح القلب، يقول: “من أراد اجتماع همه، وإصلاح قلبه، فليحذر من مخالطة الناس في هذا الزمان؛ فإنه قد كان يقع الاجتماع على ما ينفع ذكره، قصار الاجتماع على ما يضر، وقد جرّبت على نفسي مرارا أن أحصرها في بيت العزلة، فتجتمع همتي، ويضاف إلى ذلك النظر في سير السلف، فأرى العزلة حمية، والنظر في سير القوم دواء، واستعمال الدواء مع الحمية عن التخليط نافع، فإذا فسحت لنفسي في مجالسة الناس ولقائهم، تشتت القلب المجتمع، ووقع الذهول عما كنت أراعيه، وأنتقش في القلب ما قد رأته العين، وفي الضمير ما تسمعه الأذن، وفي النفس ما تطمع في تحصيله من الدنيا، وإذا جمهور المخالطين أرباب غفلة، والطبع بمجالستهم يسرق من طباعهم، فإذا عدت أطلب القلم لم أجده. وأروم ذلك الحضور فأفقده، فيبقى فؤادي في غمار ذلك اللقاء للناس، أياما، حتى يسلو الهوى، وما فائدة تعريض البناء للنقض؟ فإن دوام العزلة كالبناء والنظر في سير السلف يرفعه، فإذا وقعت المخالطة، انتقض ما بني في مدة في لحظة، وصعب التلافي وضعف القلب”[5].

      ويحدد ابن الجوزي مفهوم العزلة المحمودة ويبين تلك المذمومة: في قوله: “فكم فوتت العزلة علما يصلح به أصل الدين، وكم أوقعت في بلية هلك بها الدين، وإنما عزلة العالم عن الشيء فحسب”[6].

      وهذه الإجراءات هي التي كانت وراء الشأو الذي بلغه ابن الجوزي رحمه الله، والإنجازات العظيمة التي حققها، فقد قال عنه الموفق عبد اللطيف: “لا يضيع من زمانه شيئا، يكتب في اليوم أربعة كراريس ويرتفع له كل سنة من كتابته ما بين خمسين مجلدا إلى ستين”[7].

            فرحمة الله على هذا العالم الشامخ رحمة واسعة.

———————————————

  1. صيد الخاطر، ص: 480.

  2. نفسه، ص: 108.

  3. نفسه، ص: 109.

  4. الذيل على طبقات الحنابلة: 1/412.

  5. صيد الخاطر، ص: 353.

  6. نفسه، ص: 132.

  7. الذيل على طبقات الحنابلة: 1/412.

 

الأمين العام
للرابطة المحمدية للعلماء

أرسل تعليق