Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

المصير المشترك بين الأسر المسلمة

      وحدة الآمال والآلام والمصير المشترك وغيرها من الأمور تربط الأسر المسلمة ببعضها البعض، وإن أمنية كل أسرة الحرص على تقوية جسم المجتمع، والعمل على تعزيز الروح الجماعية فيما بينها، بما يبث الأمن والإيمان والسعادة، وإشعاة الحب والرحمة بين عباد الله جل شأنه لتتكامل الأخوة الإنسانية، في ظل التعارف الإنساني الصادق اليقظ، لخلق جو رحب من المواساة والتراحم، يحس فيه كل إنسان قدسية تزكي النفوس، لتبادل المنافع، وبأسلوب حضاري ترى فيه الإنسانية ذلك الإنسان المفتوح القلب والعقل يعي واقعه الاجتماعي والتاريخي.

      وكل أسرة وحدها لا تملك الحقيقة، والاعتراف بهذا هو اعتراف بإنسانية كل إنسان؛ ولأن له دورا حضاريا وإيجابيا؛ ولأن كل ما يمكن قوله الآن: أن البشرية تفاقمت مفارقاتها ومتناقضاتها وأنها صارت كالبحر الهائج والموج المتلاطم، والسفينة الآدمية تسبح في هذا الجو وقد فقدت “بوصلة” تحدد الاتجاه، وبالتالي فكل ما يمكن فعله أن تتضافر جهود الأسر المسلمة أن تظل هذه السفينة طافية، وأن تنجو من الغرق، وصدق الله العظيم إذ يقول: “وَأَنُ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ اَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ” [المائدة، 51].

      وأغلب الظن أن الأمور قد اختلطت، وأن النظريات البشرية نزلت عن عرشها، والشعوب هاربة ولا تدري أين تولي وجهتها، وركاب هذه السفينة يتصارعون بما لا معنى له ولا منطق، ووسط هذه الآمال الإنسانية الضائعة..

      ونحن أمة الإسلام لا يمكن أن نقفز في القرن الواحد والعشرين فرادى ومتشرذمين، وإن أردنا المعجزة ففي قفزة واحدة مجتمعين ومن الثابت عند علماء الاجتماع والتاريخ أن البناء الذاتي الخالص لا يصنعه فرد بعيدا عن المجتمع.

      وتيار الحياة لا ينفتح إلا بتلاؤم من الظروف الجماعية، والتعايش مع الآخرين لإيجاد وعاء يناسب كل مقام، حين تتواجد العدالة وتبرز الشجاعة ويقام العدل ويرفع رأسه وتحضر الرحمة، بهامات الصدق والأمانة، وتتعالى أصوات الإنصاف والمصارحة، قال تعالى: “وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” [النحل، 44].

      وليت قومي يعلمون أن الكرامة الشخصية ليست مجرد تنفيس وشعار، فهي أكثر من ذلك لأنها ينبوع كبير من ينابيع الخلق السوي والسلوك المستقيم، وهذا سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما ولي خلافة المسلمين قال: “من أراد أن يصحبنا فبخمس: يوصل إلينا حاجة من لا تصل إلينا حاجته، ويدلنا من العدل ما لا نهتدي إليه، ويكون عونا على الحق، ويؤدي الأمانة إلينا وإلى الناس، ولا يغتب عندنا أحدا، ومن لم يفعل فهو في حرج من صحبتنا والدخول علينا”.

      والأسر النائمة عليها أن تتوقع: أن الحرف اليدوية تموت، وغذاء العاجزين يدمر، والرغيف هو الرغيف بل الصاروخ المدمر في الغد، فقد ينكر البعض الحديث الصريح الأليم مع الذات حول البشاعة البشرية، وخلال عملي لما يزيد عن أربع عقود في الدعوة الإسلامية، تبين لي أن أخطر ما يواجه العمل الإسلامي، هو التدين الفاسد الذي يحيل الناس إلى أشباح ينكمش عندهم الصدق، وينزوي الوفاء وينكس العدل رأسه، وترتفع قامات الكذب والخيانة، والحياة قصيرة، إنها أقصر مما قد نحتاج لإسعاد قلوب هؤلاء الذين يسافرون معنا في نفس الطريق، ولا يملكون تكاليف الرحلة، فكيف يكون الحال إذا تمادينا في إخفاء الحقيقة وحرفنا حركة التاريخ، وحياة الناس كالنهر المتدفق، يحسب الناس سرعته وارتفاعه وقوة اندفاعه ويضعون الجسور والسدود والمقاييس، ولكن النهر ماض في طريقه الأبدي غير عابئ بشيء من ذلك، وإلى متى ونحن نركب مطايا الغرور، وقد فعلت ذلك قريش المشركة حين ركبت رأسها، وما رضيت من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون رسولا من عند الله عز وجل، وهذا هو منطق الكافرين والمنافقين والمداهنين المترفين في كل زمان ومكان والله تعالى يقول: “وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الاَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَاكُلُ مِمَّا تَاكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِن اَطَعْتُم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ” [المومنون، 33-34].

      وخير الأسر القدوة التي تفيض دوما بما يثير الإعجاب والثناء متصالحة مع نفسها ومع أفرادها، ومحيطها الإسلامي والإنساني إلى أبعد الحدود في السراء والضراء تدفع بأعضائها للإقبال على الحياة وتجعل الجميع يتكيفون معها فهي رسمت لنفسها خطا مستقيما يملك القصد وصفاء الوضوح، بقيمة إنسانية مثمرة، تحسن الاستفادة من أوقاتها للوصول إلى أهداف الحياة التي يرتضيها لنفسه الإنسان الحصيف، أسرة نجحت في الوصول إلى الاستغناء عن الأطماع لتحلق حرة وتخلصت من أثقال الاحتياج الملح، والتملك المرهق المسف، ويجئ مع الاستغناء البساطة في كل شيء، في السلوك وإنكار الذوات إلى أبعد الحدود، إلى جانب الزهد والتقشف في كل الكماليات المريبة، راضية بما تمنحها الحياة من نعم الله عز وجل، تخففت من غلواء الطموح الدنيوي الزائل حتى يتأتى لها أن تحلق بغير أجنحة مسافرة صوب السعادة، أما شوقها للحقيقة فلا يرسم له حد اعتزازا بهويتها الإسلامية وإيمانها بوحدة البشرية، وبكونية إنسانيتها كخطوة موفقة لجمع العالم في وحدة بشرية ماضية بخطى الثقة والشجاعة نحو قلب الحقيقة الكامنة في هذا الكون الرباني الباهر، ويرحم الله أحمد شوقي وهو يقول:

          إن التعاون قوة علوية    تبني الرجال وتبدع الأشياء

      والأسرة هي التي تستطيع أن تطبع الجيل الجديد بما يشعر الإنسانية، أنه يحمل الأمل لتحرير البشرية من الأحقاد المتوارثة، وخلق رجال ونساء من الطيبين والطيبات، يعشقون النظام والنظافة لا متسعكين ولا متسكعات، من ذوي الأصول وهم يواصلون دورتهم القائمة، بالتفكير الناضج والوعي الفاقه الذي يمد من مساحة التسامح، والتسليم بطبيعة الاختلاف الأزلية، ممن لا يضعون الأقفال على قلوبهم، ولا يعاندون سنة كونية، باعتبارها أمرا ثابتا لا يمكن تغييره أو محوه أو التقليل من شأنه، يملكون الأفق المتسع، وبرؤية متحضرة منفتحة وغير منفصلة عن معطيات الواقع، برحابة صدر متوافقة مع ما تسمح به درجة العصر والتعايش بين البشر، ولا ننسى أن الاختلاف أصل، وقبوله مفتاح الأمل للتقدم، وصدق الله العظيم إذ يقول على لسان أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام: “فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” [إبراهيم، 38]، وقوله سبحانه على لسان سيدنا عيسى عليه السلام: “إن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” [المائدة، 120].

      والأسر العاقلة هي تلك التي تعلم أن الوقوف في المساحة الضيقة من الفكر لا يحقق عمرانا ولا استقرارا، وخير نموذج للتعايش من تاريخ الأمة العريق في العصر الذهبي الذي كانت ساحة الدولة فيه رجال من كل الديانات والملل والنحل، فكان منهم المؤلف والمعلم وطبيب الدولة وكاتبها المقرب، والمؤتمن على خزانتها المالية، ووزيرها المفوض، ولم تضق مدنها وأسواقها بتجارهم، ولا حاراتها بالساكنين منهم فيها، لقد كان الأصل المعتمد هو القبول والتعاون ومن ثم التعايش: الكل مجتمعون في صعيد واحد وأكسبهم ظل الإسلام حرية دينية أقاموا فيها شعائرهم الدينية.

      والتقوقع اليوم لا يجدر بالأسر المسلمة ولا يليق أبدا؛ لأن الناس اليوم حطمت قواقعها وخرجت إلى الحياة الواسعة في بحرها الإنساني المتلاطم حيث توجد أسباب التلاقي وأسباب الحياة، ولابد لطالب الحياة فيها والنجاة، من مخالطة الناس، وهذا هو المنطق السليم الذي لا يقبل التأخير ولا التقوقع ورحم الله بن المعتز يوم قال:

          خذ ما تعجل واترك ما وعدت به    فعل الأديب ففي التأخير آفات

      فالانطواء والعزلة لوثة الإنسان ما تعاقب الجديدان، بهما تنسد شرايين الحياة الإنسانية النظيفة، بما يثبط الإرادات ويشيع التواكل المزري، ويوهن العزائم ويجمد المعنويات والله تعالى يقول: “فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ اَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ اَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” [القصص،  50].

      وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أرسل تعليق