Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

أبو عمرو القسطلي.. (2)

إن من أشهر الصوفية الذين تخرجوا على يد أبي عمرو القسطلي، وبعضهم أسسوا زوايا بإشارة منه سيرا على نهج المدرسة الجزولية في بث الزوايا والمرافق العمرانية في مختلف مناطق البلاد: منهم أبو بكر المجاطي الدلائي مؤسس الزاوية البكرية الدلائية بأمر منه[1]، وأبو عبد الله محمد بن المبارك الزعري التستاوتي الذي كان منقطعا بزاوية أبي عمرو بمراكش، وعاد إلى بلاده لتأسيس زاوية بها[2]، والحسن المداح الزعري لازم الشيخ أزيد من ثلاثين سنة، وعنه روي الزروالي كثيرا من أخباره في شمس القلوب[3]، وفي تحفة أهل الصديقية للمهدي الفاسي، ذكر لمجموعة كبيرة من مريدي أبي عمرو وأتباعه[4]، وقد كان لشيوخ الزاوية البوعمرية اهتمام بالأدب، فقد رويت لأبي عمرو تائبة مطلعها:

ومن معـدن التحقــيق كـان نـصيبنـا       وجملة أنواع اليقين في قبضتي[5]

ويكاد يتوقف هذا النشاط العلمي والإشعاع الأدبي بعد الشيخ الثالث من شيوخ الزاوية محمد الكبير بن أبي عمرو، فلا يرد في المصادر والوثائق ما يفيد استمرار هذه الحركة العلمية الأدبية، بينما تستمر الزاوية في أداء باقي الوظائف التربوية والاجتماعية، وقد مكنت هذه الوثائق من وضع سلسلة متصلة الأسماء شيوخ الزاوية ومقدميها منذ أبي عمرو إلى اليوم، وهذا لم يمنع من ظهور بعض العلماء والشعراء من البوعمريين نذكر على سبيل المثال: أحمد ابن مسعود البوعمري الذي كانت له صحبة بالعالم أبي الحسن اليوسي، وأحمد بن محمد بن عبد العزيز البوعمري، والشاعر محمد بن محمد البوعمري صاحب قصائد ملحونة عديدة[6].

 أما الأدوار الاجتماعية للزاوية البوعمرية فتمثلت أساسا في إطعام الطعام عملا بالقاعدة المغربية المشهورة: رأس التوفيق والعبادة إطعام الطعام، وسيرا على الحكمة القادرية: “تأملت في المكرمات كلها فلم أجد أفضل من إطعام الطعام”، وحتى تتمكن الزوايا بشكل عام من القيام بذلك على أحسن وجه كان شيوخها يهتمون بشق السواقي وحفر الآبار، واستصلاح الأراضي ضمن مشروع عمراني إنساني كوني بفضل من الله.. وتتضاعف أهمية هذا الدور خلال فترات المجاعة والأوبئة كما هو الحال في القرن العاشر (سنوات: 923 هـ، 929 هـ، 929 هـ، 948 هـ) والقرن الحادي عشر سنوات (1022 هـ، 1060 هـ 1070 هـ)[7]، ومن الذين اهتموا بميدان الفلاحة والري: عبد العزيز التباع، إشرافه على بستان شيخه السهلي، الغزواني وتلامذته من بعده عبد الله بن حسين، وعبد الله بن ساسي، وأبو عبيد الشرقي بأبي الجعد، ورحال الكوش، وقد سمي عبد الكريم -شيخ صاحبنا أبي عمرو- بالفلاح لاهتمامه بالفلاحة: إحياء الأراضي واستصلاحها، وشق السواقي، وحفر العيون والآبار وغرس الأشجار. وقد نقل الحلفاوي في شمس المعرفة كلام عبد الكريم الفلاح في الموضوع، وعلق عليه بقوله، من كلامه ما شهدنا صدقه بعد ستين سنة كقوله: سأغرس في موضع كل سدرة شجرة.. مكنه ذلك من إطعام الوافدين على زاويته بباب أيلان وتقديم ما يحتاجونه من أصناف اللحوم، والخضر والفواكه[8]، إن هذا يؤكد فكرة طالما أثرتها حول احتراف كثير من صوفية المدرسة الجزولية للفلاحة وشق السواقي وحفر الآبار، بل واعتبار ذلك جزءا من التربية الصوفية، وهذه مسألة لها علاقة كبيرة بازدهار العمران في كثير من مناطق المغرب بما فيها المناطق النائية..

وكانت اهتمامات أبي عمرو القسطلي الفلاحية تتجاوز مدينة مراكش وحوزها لتصل إلى بلاد زعير حيث الأراضي الفلاحية التي استصلحها، وكان يحرثها بمساعدة بعض سكان المنطقة وتسمى الكفيان، وفي كنانيش حسابات الزاوية إشارات إلى قدوم أهل زعير لمراكش ونزولهم بالزاوية، وقيام أصحابها بواجب الضيافة والإكرام، كما كان يحرث أرضه المسماة أكفى باغواطيم، والتي كانت تسقى بمياه ساقيتي توريكت وترزينت، ومساحة هذه الأراضي حوالي 2000 هكتار يحرث ثلثها، والباقي غابة للرعي وتكتريها بعض قبائل غيغلية ومسفيوة منه، تضاف إلى هذا أراضي مراكش خارج باب دكالة، وباب الخميس وهي عرصة شرف -تلجاسين تدقا- رويضة الخير، وأهمها سيدي عباد، وقد اتسعت أملاك الزاوية فيما بعد حتى شملت مجموعة من العراصي في ضاحية المدينة (انظر: حسن جلاب، أضواء على الزاوية البوعمرية).

وتحدثت المصادر عما كان يقدم في الزاوية من أصناف الطعام، وتبين منها أن أبا عمرو كان يقدم ثلاثة أصناف من الوجبات، كل وجبة مخصصة لفئة من الناس، فسائر الناس يقدم لهم في الصبح الدشيش، وفي وسط النهار خبز الشعير والفواكه، وفي المساء الكسكس، ومن هم أعلى مرتبة يقدم لهم الخبز البر، وخلاصة التمر والعسل واللحم والثريد والدجاج، وطبقة الأعيان يقدم لهم الحسو المتخذ من لباب الخبز الخالص، وفصوص البيض مفوها بالقرفة والزعفران، ولحم الضان المطبوخ بالمرق واللفت، وأنواع الفاكهة[9]، وكان أحمد بن عبد الله الكوش مشرفا على مطبخ الزاوية، وكان والده مشرفا على المطبخ الذي يبرد فيه الكسكس باللواح، وقيل نفس الشيء عن تلميذه أبي بكر الدلائي، وآنيات الطبخ في زاويته، وهو الذي كان استشار الشيخ الفاضل أبي المحاسن الفاسي في ذلك، فلم يجبه هذا الأخير برسالة ولا بقول، بل بعث له برمة وكسكاسا..

وبالرغم من أن أبا عمرو قد أوصى أبناءه لما حضرته الوفاة بألا يتعرضوا لما كان يتعرض له هو من إطعام ذلك، باعتباره سرا لا يقدر عليه إلا من أذن له فيه؛ فإن ابنه الكامل قد سلك نفس النهج في الإطعام، فقد تحدت الحلفاوي في شمس المعرفة، وهو أحد كبار مريدي الزاوية، فقال في هذا الموضوع “لقد أغنانا عن ديارنا وعن مالنا وعن سواه، حتى غنا لنعبد الغذاء الواحد ثلاث عشر لونا من ألوان الطعام الملوكية التي لا تخرج كذلك من أكبر دور الملوك[10]، واستمر هذا الدور الاجتماعي الأساسي للزاوية بعد الكامل ومحمد الكبير، حتى إننا وقفنا على وثائق تذكر أن حراس البواب بمراكش كانوا مكلفين بإخبار الغرباء والمحتاجين والمعوزين للتوجه إلى الزاوية لتناول الطعام ماداموا في المدينة[11]..

وكان يعتقد أن أبا عمرو ينهض بذلك بفضل دعاء شيخه عبد الكريم الفلاح: أعطاك الله حالة أهل الجنة: ثياب لا تبلى، وطعام لا ينقطع، أو بفضل سر خاص به، إلا أن الوثائق التي وقف عليها الأستاذ حسن جلاب تبين أن لغنى الزاوية واتساع مداخيلها دورا أساسيا في ذلك. وكانت هذه الموارد تأتي من  المحاصيل الزراعية، والأكرية وهي منها الخاصة بالأراضي (أغواصيم)، وبالمياه: ماء ترزينت، وتوريكت، وتالعينت والتوايز وسيدي عباد، وبالحوانيت والمحلات التجارية والدور، ومداخيل الحوانيت والطاحونات والأفرنة والدرازات، بالإضافة إلى الهبات والهدايا والأعشار المحمولة للزاوية..

أما الدور السياسي للزاوية فتجلى أساسا في مساندة الدولة السعدية ضدا على الدولة الوطاسية التي كان القادريون يساندونها، ومع ذلك لم يخل العصر من امتحان أهل الزوايا. لقد كان أبو عمرو يصرح بأنه القطب، والسلطان وصاحب الوقت، وقد عبر عن ذلك في تائيته المشهورة، بمثل قوله:

بأرواحكم أعني أقروا بملكنا      وأعناقهم طرا أناخوا لرتبتي[12]

وهو وإن كان يقصد الجانب الباطني للسلطان؛ فإن دعواته هاته كانت تزعج السلطة لكثرة أتباعه ومناصريه، وتأثيره الكبير فيهم، وقد أشار إلى ذلك محمد المهدي الفاسي بقوله: “وكانت الملوك تتشوش من قوله إنه السلطان وصاحب الوقت، مع شهرته وبعد وصيته، وانتشار ذكره، وكثرة أتباعه، فكانوا يهمون به، ويمتحنونه وسجنوه مرة في داره..[13].

ومع ذلك فقد كان صاحبنا أبو عمر شديد الانتقاد للسلطان أبي العباس أحمد الأعرج، وكلما سئل عن تجرؤه عليه قال: “أأخاف من المذبوح ووالله إني أرى الذبحة في عنقه من الأذن إلى الأذن، ووالله إن لم أرفع فريسته لم يرفعها أحد..”. هكذا في ممتع الأسماع، ومعلوم أن أحمد الأعرج قتل مع أولاده على يد القائد علي ابن أبي بكر أزناك بعد اغتيال الأتراك لمحمد الشيخ بتارودانت (سنة 964 هـ)، وبقيت جثثهم مطروحة دون أن يجرؤ أحد على دفنها إلى أن قام بذلك أبو عمرو[14].

ويفيدنا حسن جلاب في دراسته حول الزاوية البوعمرية أن الزاوية لم تتعرض لامتحان محمد الشيخ عند امتحانه للزوايا وللمتصدين للمشيخة (سنة 958 هـ)، وتسجيل المصادر موقف عبد الله الغالب منه، فقد جمع له العلماء والفقهاء لامتحانه بجامع الكتبيين، إلا أن أبا عمرو استصغرهم، وأرسل سخان حمامه لمناظرتهم[15]، ولم يؤد ذلك إلى حدوث القطيعة بينهما، بل على العكس من ذلك أنهم أنعموا عليه بظهير التوقير والاحترام، وكان يزوره بنفسه ويدخل زاويته، وعندما توفي الشيخ (سنة 974 هـ) أظهر جزعا شديدا عليه ووقف بنفسه على جنازته..

وكان محمد الكامل بن الشيخ القسطلي بدوره ينتقد السعديين لما كانوا عليه من فساد وضلال -في نظره- فكان المنصور السعدي يسايره أحيانا، ويعنفه أحيانا، متعجبا لحيازته المحاسن وهو شاب.

وكان القصر الملكي يقدره ويحترمه، فمع وجود صوفية غيره لجأت إليه الحرة مسعودة الوزكيتية والدة السلطان أحمد المنصور الذهبي، وبانية مسجد باب دكالة الشهير، عندما خرج ابنها المنصور إلى فاس لإخماد ثورة بعض أقاربه، وزاد من هولها وقوع الزلزال بالمدينة (سنة 995 هـ) فطمأنها من روعها وأعادها إلى قصرها.. هكذا هي ذرية الشيخ أبي عمرو القسطلي، وهذه هي أخلاقهم وهممهم، رحمهم الله جميعا..

توفي الشيخ أبو عمر القسطلي (سنة 974 هـ)، ودفن بزاويته برياض العروس بمحروسة مراكش، رحمه الله وجازاه عن مراكش والمغرب خيرا والله الموفق للخير والمعين عليه..

——————————————

1. ممتع الأسماع، 143، 144 القادري، صفوة من انتشر 9.

2. الأعلام، 3/149.

3. شمس القلوب لكل محبوب مخطوط الخزانة العامة بالرباط رقم: 3694 د، نقلا عن حسن جلاب، مرجع سابق.

4. محمد المهدي الفاسي، تحفة أهل الصديقية 53، 55.

5. محمد المهدي الفاسي، ممتع الأسماع، 95.

6. حسن جلاب، أضواء على الزاوية البوعمرية، أما قصائد البوعمري فهي متداولة بين شيوخ الملحون وهواته بمراكش.

7. انظر في موضوع المجاعات والأوبئة التي عرفتها مراكش، والمغرب، مقال:

B/ Rosemberger H. Triki .Famines et épidémies au Maroc Hésperis 1973 – 74

8. محمد المهدي الفاسي، ممتع الأسماع، 48.

9. ابن عسكر، دوحة الناشر 108 تحقيق محمد حجي.

10. شمس المعرفة، 262.

11. حسن جلاب، أضواء على الزاوية البوعمرية، وتعزز الرواية الشفوية مجموعة من الوثائق، وهي متصلة إلى الفترة المتأخرة.

12. ممتع الأسماع، 95، 96.

13. ممتع الأسماع، 95.

14. محمد المهدي الفاسي ممتع الأسماع والناصري، الاستقصا 5/32، 35.

15. السملالي، الإعلام 1/339، 340.

أرسل تعليق