Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

منّاع للخير…

يقول الله تعالى تقدست أسماؤه: “وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ اَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ اَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاَوَّلِينَ” [القلم، 10-15].

معظم المفسرين على أن هذه الأوصاف تشير إلى الوليد بن المغيرة، وقيل هو الأخنس بن شريف، وقيل غيره، ونحن لا يعنينا الشخص الذي نزلت فيه الآيات، وإنما يعنينا العبرة من ذكر صفاته التي هي ضد النموذج الإنساني الكامل الذي يرسمه القرآن الكريم بطرائق وأساليب متنوعة، ويستلوح من السياق أنه الرجل الذي رمى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (إنه لمجنون) فرماه الله تبارك وتعالى بعشر صفات، وهي كالآتي:

الأولى: أنه حلاّف كثير الحلف بالله، وذلك آية اجترائه على الله، وقلة توقيره لاسمه الكريم؛

الثانية: أنه مهين؛ يشعر بمشاعر الدناءة والمهانة تسيطر على نفسه، وإن كان في قومه ذا مال وبنين، وهذا شعور أبى الله أن يبتلي به كل من عصاه؛

الثالثة: أنه همّاز؛ كثير الهمز والطعن في أعراض الناس بالعبارة والإشارة وبالتصريح والتلويح؛

الرابعة: أنه مشاء بنميم بمعنى كثير السعي بين الناس ينقل حديث بعضهم لبعض ليفسد بينهم؛

الخامسة: أنه مناع للخير؛ لا يصنع خيرا قط، بل يحبس خيره ورفده عمن يستحقه، ويصدّ الناس عن فعل الخير؛

السادسة: أنه “معتد” يتجاوز الموقف السلبي الذي يمنع فيه الخير إلى موقف عدواني يبسط فيه يده بإيذاء الناس والإضرار بهم.. فهذا “المُخرج” الوحيد الذي يصدر عنه: الأذى والعدوان؛

السابعة: أنه “أثيم” كثير الارتكاب للذنوب والآثام بمختلف أنواعها وصورها؛

الثامنة: أنه “عتل” أي خشن غليظ قاس عنيف في كل تصرفاته ومواقفه؛

التاسعة: أنه بعد ذلك كله “زنيم” أي معروف باللؤم والخبث متفوق على الناس في ذلك بعلامة يعرفونها؛

العاشرة والأخيرة: مقابلته النعمة بالبطر والكفر.. إذ آتاه الله مالا وبنين فأطغاه ماله وبنوه، وجعل يسخر من آيات الله إذا تُتلى عليه قال أساطير الأولين..

منّاع للخير...

ولم يكتف القرآن الكريم بعرض مساوئ هذا النموذج الغريب الذي هو في حقيقة الأمر مجمع السوء، ليمقتها المتلقي المؤمن، ويمقتها كل ضمير حي، ولكنه أتبعها بتفسير سبب هذا الموقف وتعليله…

فضرب له ولأمثاله مثلا ممن أنعم الله عليهم برغد العيش، ونعمة المال والبنين ليختبرهم، وذلك هو مثل أصحاب الجنة “إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُون فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَن لّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ” [القلم، 17-32]

قصة أصحاب الجنة هي قصة الأفراد والأسر والشركات والجماعات والأقوام والأمم التي تمنع حق الله عز وجل وتغتر بالنعمة ولا تشكرها، وذلك لأن أصحاب الجنة أقسموا ليصرمُنَّها مصبحين أي حلفوا على أن يقوموا بجني ثمار ضيعتهم في صبيحة الغد، وارتكبوا في ذلك خطيئتين:

إحداهما: أنهم أمنوا مكر الله واطمأنوا إلى أنهم مدركون وطرهم لا محالة؛

الثانية: أنهم صمّموا على ألا يتركوا شيئا من الثمر للفقراء والمحرومين “لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ” فأراد الله أن يعاقبهم على هذا بالإثم المزدوج بالحرمان التام “فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ” نزلت بها جائحة اكتسحت ثمارها فأصبحت كالصريم فاستيقظ القوم من نومهم، وهم لا يدرون ما جرى به قلم القضاء “فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ” يتحاضون على تنفيذ ما بيتوه فهذا أوانه قبل أن يسفر الضوء، وينتشر الناس.. فانطلقوا من مساكنهم وهم يتخافتون.. يسر بعضهم إلى بعض القول تأكيدا لما تحالفوا عليه “لَا يَدْخُلَن جَنَّتكُمْ الْيَوْم عَلَيْكُمْ مِسْكِين” لا تمكنوا مسكينا واحدا من دخول الحديقة عليكم اليوم حتى نودع ثمارها في مكان حصين، فلما رأوها قالوا إنا لضالون…

كانت صدمة قاسية ومفاجأة أليمة ذهلوا منها أول مرة حتى ظنوا أنهم أخطأوا الطريق، وقالوا ما هذه بحديقتنا ثم رجعوا إلى أنفسهم، وتبينوا المعالم والحدود.. فانكشفت لهم الحقيقة المرة فقالوا كلا بل هي هي، ولكننا قوم محرومون.. وكان فيهم رجل صالح نهاهم في أول الأمر عن هذه الخطة الجائرة وذكرهم بالله فلم يسمعوا نصيحته، فلما نزلت الكارثة أخذ يؤنبهم “قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ“.

هنالك استيقظت ضمائر القوم واعترفوا بذنبهم وقالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين، ثم أخذوا يتلاومون من المسؤول منهم عن هذه الفعلة، فأخذ كل منهم يلقي بجانب من المسؤولية على غيره، لكن هذا التعاتب والتلاوم لم يكن ليشفي صدورهم لأنهم كلما حولوا وجوههم شطر الحديقة وقعت أبصارهم على منظر الكارثة الكالح، فازدادت قلوبهم حرقة وحسرة فقالوا “يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ”، وهكذا اعترفوا بذنبهم مرة أخرى ولكن في صورة أعمق من قولهم لم نكن ظالمين فحسب، بل جاوزنا الحد في الظلم… فنحن أهل لما نزل بنا وما ظلمنا الله ولكننا ظلمنا أنفسنا… وأخيرا انقطع أملهم إلا في الله فقالوا “عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ” لا نطمع إلا في بره، ولا نرجو إلا خيره، ثم قال جل شأنه “لذلك العذاب” هذه سنتي في تاريخ المجتمعات والقرى أي كما كانت عاقبة أصحاب الجنة أن عوقبوا بهلاك زرعهم وثمارهم لأنهم نسو ذكري ، ومنعوا حق الفقراء، وأبطرتهم النعمة… فكذلك تكون عاقبة المبطرين أن يعاقبوا بزوال ما هم فيه من رغد العيش وحلاوته كما قال جل وعلا “وَكَمْ اَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ” [القصص، 58-59].

والله المستعان

أرسل تعليق