Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

فقه النقد الأكاديمي

      من الأمور المسلم بها في الفكر الإسلامي أن مقدمات التغيير الحضاري تحتاج إلى دور فاعل ومحوري للباحثين والمفكرين والعلماء، فهم الرواد الحداة الذين يمسكون بزمام القافلة ويمشون أمامها تيسيرا واستبصارا للنهوض بالدور الحضاري المنشود للأمة.

      وإن نقد العلوم الإسلامية نقدا أكاديميا، وإعادة قراءة التراث المعرفي الذي أنتجه علماء السلف والخلف، ومراجعة الإنتاجات العلمية للعقل الإسلامي مهمة أساسية أسهمت بشكل كبير في بلورة التصور، وتجديد النظر في كثير من القضايا العلمية، وستسهم كذلك في إعادة الوعي الحضاري للأمة.

      ويمكن الجزم بأن نظرية العلوم الإسلامية أو فلسفة العلوم الإسلامية هي التي جعلت هذه العلوم تشق عنان السماء، وذلك حينما صاحَبتها منذ نشأتها بمنهج منظم يدرس قضايا العلم ومسائله والنتائج المحصلة عليها دراسة نقدية تقويمية، جعلتها تثري المكتبة الإسلامية إثراء لم تعرف له البشرية قبل ذلك التاريخ نظيرا.

      وبرجوعنا إلى الإنتاج المعرفي للأمة في تاريخ الفكر الإسلامي نجد أن علماء المسلمين صنفوا في نقد ومراجعة العلوم تصانيف كثيرة، منها كتاب التمهيد للإمام الباقلاني الذي قدم له بباب “العلم وأقسامه وطرقه”، والقاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه “النظر والمعارف”، والإمام الغزالي الذي ألف عدة كتب في الموضوع منها كتابه “إحياء علوم الدين”، و”المنقذ من الضلال”، والإمام ابن حزم الذي عرف بنقده في كتبه المشهورة “المحلى”، و”إحكام الأحكام” وغيرها، والإمام الفخر الرازي في كتابه “المحصل”، والإمام الإيجي في كتابه “المواقف”.. بل يمكن الحديث عن ظهور مدارس نقدية، كمدرسة ابن خلدون، ومدرسة ابن تيمية، ومدرسة ابن رشد، ومدرسة الشاطبي، ومدرسة الباجي، وغيرها من المدارس العديدة.

      ولقد استقر هذا الوعي المنهجي في ذاكرة الأمة الإسلامية فترة بعد فترة حتى عصرنا هذا، بل أضحى من الشروط الأساسية التي ينادي بها الفكر الإسلامي اليوم لإخراج الأمة مما هي فيه من أزمة معرفية مستعصية، فأصبحت الدعوة إلى إعادة قراءة العلوم الإسلامية ومراجعة التراث الإسلامي تتسع دائرتها بين صفوف المفكرين المعاصرين، فأعقبتها استجابة واسعة في المؤتمرات العلمية، واللقاءات الدراسية، والتآليف الحديثة التي بدأت تعيد إحياء العملية المعرفية المنهجية التقويمية، مما يؤشر على أنها تعتبر انطلاقة تصحيحية للبحث عن مشروع حضاري قادر على إسعاف الأمة الإسلامية وتحريرها من قيودها لتعود إلى مرابض عزها وتالد مجدها. ولعل هذا ما دفع الأستاذ طه جابر العلواني إلى التأكيد في كتابه “نحو التجديد والمراجعة” على أن إخراج الأمة الوسط، المخرجة للناس من هذه الأزمة يقتضي مراجعة شاملة ذات منطلقات منهجية معرفية لتراثنا كله قد تتطلب تجنيد مئات الباحثين، وعقد عديد من اللقاءات والندوات العلمية المتخصصة لدراسة وتحليل تراثنا كله لرصد سائر تلك الأفكار السامة والمريضة، وتمييزها عن السليم الصحيح من تراثنا؛ لئلا تستمر تلك الأفكار السامة في الفتك بالسليم الصحيح من تراثنا وتستمر حالة التردي، فذلك هو الذي سيعين الأمة إن شاء الله ـ ولو بعد حين ـ على تجاوز الحالة الراهنة والخروج من أزمتها الفكرية الموروثة والمعاصرة، وإعادة تشكيل العقل المسلم بحيث يعود عقلا متألقا كما كان يصدر عن كتاب الله وإليه يعود، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد الأمر في بيانه وفهمه، وإليه وإلى منهجية التأسي يرجعه.

      ليس الغرض من موضوع هذه المقالة المقتضبة بيان حقيقته العلمية التي تعتبر من المعلوم بالضرورة من تاريخ العلوم الإسلامية، لكني أردت التنبيه على أن المتتبع لنشأة المعارف الإسلامية وتطورها عبر العصور يلاحظ أنه لا يكاد يخلو زمان أو مكان من تاريخ الفكر الإسلامي من ممارسة منهجية تبحث في المعرفة بشتى أنواعها وتوجه النقد الأكاديمي البناء للعلم وللعلماء على حد سواء، وما هذا على الباحثين المعاصرين بعزيز لإعادة تشكيل الوعي الحضاري للأمة.

أرسل تعليق