Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

المُنَاسَبَات بين السُّوَرِ والآيَات (1/4)

      يَهْدِفُ علم المناسبة إلى إبراز اتِّساق النَّصِّ القرآنِيِّ وانْسِجَامِه، والاقْتِفاءِ لمضامِينِ سِبَاقِه ولحَاقِه، والتَّغَلْغُلِ في تفاصيل منظومتِه وربطِها بحقائق الوجود لإِثْبَاتِ إِعْجازِه، والكشْفِ عن أَسْرارِهِ وإدْراكِ معانيه وتذوُّقِ نَظْمِهِ، ذَلِكُمْ أن للكلماتِ والأَفعال والحروف والأساليب التي يختارُها القرآن الكريم أهمية قُصْوى في بيان مقصده وروعة بلاغتِه، على الرّغْم من اختلاف مكانه وتعدُّدِ أَسبابِه وأَوقاتِ نُزولِه.

      فهو علم يعنى بالكَشْفِ عن الترابط اللفظي والمعنوي لسُوَرِ القرآن الكريم وآيَاتِه، وتماسُكِ جُمَلِه وكلماتِه، وعُذُوبَةِ نُطْقِهِ وقُرْبِ مأْخَذِه، لِيَستزِيدَ العلماء المفسِّرُون في توضيح مراد خِطابِه واستنشاقِ نَفَحَاتِه، واستكشافِ لطائفِه ودُرَرِ رَوائعِه، وتعلُّمِ حَدِّ فوَاصلِه وسِرِّ إشاراتِه.

      وما هذه المقَالَةُ إلا تذكير الخاصَّة والعامة ولَفْتهُم للتَّعقُّل والتَّأَمُّل في شرفِ كتاب الله ورفعتِه، والذي يستحيل أن يَأْتِيَ أَبلغُ البُلغاء وأفصَحُ الفُصحاء بآيةٍ من آياتِه، أو بحرفٍ من حروفِه، لقد أراد بعض عَرَبِ الجاهليَّة أَوَانَ تربُّصِهِم لِأَخطاء الشعراء ولَحْنِ الخُطباء مُجَاراتَهُ والنَّسْجَ على منواله ونسقه، فأعجزَتْهُمْ مزايا ظهرت لهم في نظمه، وخصائص صادفوها في سياق لفظه، وبدائع راعتهم من مبادئ آيِهِ ومَقَاطعها، ومجاري ألفاظها ومواقعها…، وبهرهم أنهم تأملوه سورة سورة، وعُشراً عُشراً، وآية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها، ولفظة ينكر شانها، أو يُرى أن غيرها أصلح مكاناً أو أشبه، أو أحرى أو أخلق، بل وجدوا اتِّساقاً بهر العقول وأعجز الجمهور، ونظاما والتئاماً، وإتقاناً وإحكاماً، لم يدع في نفس بليغ منهم، ولو حَكَّ بيافوخه السماء موضع طمع، حتى خرست الألسن أن تدعي وتقول[1].

      وفي هذا المعنى يقول ابن عطية: “وكتابُ الله لو نُزِعَتْ منه لفظةٌ، ثم أدير لسان العرب على لفظة غيرها لم يوجد، ونحن يتبين لنا البراعة في أكثَرِه، ويخفى علينا وجهها في مواضع، لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق، وجودة القريحة”[2].

      ويذْكُرُ ابن رشيق القيرواني أنَّ: “أبلغَ الكلام ما حسُن إيجازه، وقَلَّ مجازه، وكثر إعجازه، وتناسبت صدوره وأعجازه”[3].

      ويقول الزركشي: “المناسبة أمر معقول، إذا عُرض على العقول تلقَّتْه بالقبول، وكذلك المناسبة في فواتح الآي وخواتمها، فمرجعها يعود إلى معنى ما رابطٍ بينهما، عام أو خاص، عقلي أو حسِّي أو خيالي، وغير ذلك من أنواع العلاقات، أو التلازم الذهني كالسبب والمسبب، والعلة والمعلول، والنظيرَيْن والضدَّيْن ونحوه، أو التلازم الخارجي كالمرتب على ترتيب الوجود الواقع في باب الخبر”.

      ويقول الرافعي: “اعلم أنه ليس من شيء يحقق إعجاز القرآن من هذه الجهة، ويكشف منه عن أصول السياسَتَيْنِ، والتَّأَتِّي إلى أغراضهما بسياق اللفظ ونظمه وتركيب المعاني وتصريفها فيما تتجه إليه، ومداورة الكلام على ذلك إلا تأمُّله على هذه الوجوه، وإطالة النظر في كل معنى من معانيه، وفي طبيعة هذا المعنى ووجه تأديته إلى النفس، وما عسى أن تعارضه النفس به، أو تدافعه، وتلتوي عليه من قبله، ثم طبقات هذا المعنى بعينه.. ثم وجه ارتباط ذلك بما قبله، واندماجه فيما بعده، ومساوقته لأشباهه ونظائره حيث اتَّفق منها في الكلام شيء، ثم تدبر الألفاظ على حروفها وحركاتها وأصالتها ولحونها، ومناسبة بعضها لبعض في ذلك، والتغلغل في الوجوه التي من أجلها اخْتِير كل لفظ في موضعه، ثم انظر في روابط الألفاظ والمعاني من الحروف والصيغ التي أقيمت عليها اللغة، ووجه اختيار الحرف أو الصيغة، ثم طريقة النسق والسرد في الجملة ووجه الحذف أو الإيجاز أو التكرار ونحوها، مما هو خاص بهذه الطريقة حسب ما توجهه المعاني؛ فإن كل ذلك في القرآن على أتمه”[4].

      وقال محيي الدين بن عربي: “لا بُدَّ من مناسبةٍ بين آيِ القرآن، وإنْ كان بينهما بُعْدٌ ظاهرٌ، ولكنْ لا بد من وجهٍ جامعٍ بين الآيتيْن مناسب، هو الذي أعطى أن تكون هذه الآية مناسبة لما جاورها من الآيات؛ لأنه نظم إلهي، وما رأينا أحداً ذهب إلى النظر في هذا إلا الرماني (تـ 386هـ) من النحويين؛ فإن له تفسيراً للقرآن، أخبرني مَنْ وقف عليه أنه نحا في القرآن هذا المنحى.. ثم يقول: إن مسمى الآية إذا لزمَتْها أمور من قبل أو بعد، يظهر من قوة الكلام أنَّ الآية تطلب تلك اللوازم، فلا تكمل الآية إلا بها، وهو نظر الكامل من الرجال، فمن ينظر في كلام الله على هذا النمط؛ فإنه يفوز بعلم كبير، وخير كثير؛ فإن الحق سبحانه لا يُعَيِّن لفظا، ولا يُقيِّد أمرا، إلا وقد أراد من عباده أن ينظروا فيه، من حيث ما خصَّصَه وأفرده لتلك الحالة، أو عيَّنَه بتلك العبارة، ومتى لم ينظر الناظر في هذه الأمور بهذه العين، فقد غاب عن الصواب المطلوب”[5].

      وقبل الغَوْصِ في لُبِّ الموضوع يَلِيقُ بنا أن نتساءل: هل كلُّ آيةٍ جاءتْ بعدها آيةٌ أُخرى أَتَتْ لمناسبة؟ وهل بين الآية الأولى والثانية رابط؟ والثانيةِ والثالثةِ بينها مناسَبة؟ وهل هذه الآيات في نظامها بينها وبين موضوع السورة تَرَابُطٌ واتِّصال؟ وهل يكون التناسب بين اسم السورة وموضوعها، أو بين السور القرآنية وصولاً إلى الوحدة الموضوعية في القرآن جميعِه؟ وهل ثَمَّ تناسبٌ بين مطلع السورة وخاتمتها؟ وبين قصص السورة؟ وهل تمثل كل سورة من طِوالِ المُفَصَّل موضوعا مترابطاً؟. الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرِها ممَّا له ارتباطٌ بهذا العلم سيكون بإذن الواحد الأحد في العدد القادم بحول الله تعالى..

—————————–

 1.  دلائل الإعجاز للجرجاني، ص: 39.

 2.  ينظر، فكرة إعجاز القرآن منذ البعثة النبوية حتى عصرنا الحاضر،  د. نعيم الحمصي، ص: 95، مؤسسة الرسالة ، بيروت.

 3.  العمدة: 1/246، تح محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، ط: 5/ 1981م.

 4.  إعجاز القرآن، ص: 259

 5.  ينظر، رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن، لمحيي الدين بن عربي، ج: 1، ص: 13- 14، جمعه، محمود الغراب ، مطبعة نصر ، دمشق.

أرسل تعليق