Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

الدعاء بين الأمن وقصد الحرية

يقول عز وجل جلت قدرته “وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد ءَامنا واجنبني وبني أن نعبد الاَصنام” [إِبراهيم، 36-37].

سيق هذا الدعاء في مقام التذكير بالنعم التي أنعم بها الله تبارك وتعالى. ويبدو أنها صنفان: صنف النعم العامة التي تتعلق بالناس كافة، لقوله تعالى: “الله الذي خلق السماوات والاَرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الاَنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار الاَنهار وءَاتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الاِنسان لظلوم كفار” [إِبراهيم، 34-36]. وصنف النعم الخاصة التي تتعلق بما من به على أهل مكة[1]. وهو ما جاء في قوله تعالى: “وإذ قال اِبراهيم رب اجعل هذا البلد ءَامنا و اجنبني وبني أن نعبد الاَصنام” [إِبراهيم، 37]. يبدو من هذا المقام المقالي أن إبراهيم عليه السلام تضرع إلى الله تعالى بأمرين: أولهما أن يمن على مكة بنعمة الأمن والأمان، والثاني أن يجنبه وبني صلبه عبادة الأصنام.

الأمن

لقد سبق لإبراهيم عليه السلام أن دعا الله تعالى أن يجعل مكة بلدا آمنا كما في قوله تعالى: “اجعل هذا بلدا ءَامنا” [البقرة ، 125][2]. والفرق بين هذه الآية وآية إبراهيم هو ما بينه الزمخشري في قوله: “قد سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال: هو بلد مخوف فاجعله آمنا“[3]. وقد استجاب الله تعالى لدعوة إبراهيم كما في قوله: “أو لم يروا أنا جعلنا حرما امنا” [العنكبوت، 67] وقوله: “إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه ءَايات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان ءَامنا” [ال عمران، 96 -97].

الدعاء بين الأمن وقصد الحرية

والحق أن ما طلبه إبراهيم عليه السلام هنا متعلق بمدى توفر البيئة الأمنية التي يأمن الناس فيها على دينهم وأنفسهم وعقولهم وأعراضهم ونسلهم. وبذلك يرتفع الخوف ويكون الأمن الروحي والمادي. والجدير بالإشارة إليه أن مفهوم الأمن من المفاهيم التي تكتنز كثيرا من المعاني لأنه بقدر ما يشمل حفظ النفوس والعقول، وصيانة الأعراض، وتنمية الأموال يشمل أيضا حفظ العقائد والأحوال المجتمعية. فبدونه تنتشر الفتن وتضيع الأموال وتنتهك الأعراض وتزهق الأرواح البشرية بدون وجه حق؛ وانطلاقا من أهمية وخطورة هذه النعمة الأمنية في حياة الناس حذرنا الله تعالى من الوقوع في الأسباب التي تجعلنا جميعا محرومين من نعمة الأمن. وفي هذا المضمار قال تعالى: “ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون“.

إن نعمة الأمن من الضرورات الكبرى التي تقوم عليها حياتنا، ولهذا جاء الأمن في القرآن المجيد مقترنا بالطعام الذي لا حياة للإنسان بدونه، لقوله تعالى: “فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” [قريش، 3-4]. كل مخلوق في الأرض، مهما حاز من شرف، ومهما نال من رفعة، ومهما كانت قوته البدنية والمالية والعلمية، ومهما كانت سلطته، هو فقير إلى الأمن وفي حاجة ماسة ودائمة إليه. لننظر إلى الكيان الإسرائيلي الذي اغتصب حقوق الفلسطينيين واحتل الأراضي كيف يفتقر دائما إلى الأمن، وكيف يسعى باستمرار إلى ضمانه بكل ثمن. يملك هذا الكيان آلات البطش العسكرية الفتاكة، ويملك المناصرين الخونة والظلمة، يملك كل ذلك، ولكنه لا يعيش ولا يمكن أن يعيش في أمان مع المقهورين والمستضعفين. لننظر مرة أخرى في مصير الجبابرة والمستبدين في الماضي والحاضر، ولنعتبر ب مصيرهم: كلهم حاولوا أن يملكوا الدنيا بالظلم وبغير حق، ولكنهم فقدوا الأمن ودمروا بذلك أمن بلادهم قبل أن يدمرا ديارهم ومدنهم وقراهم. فلن يتمتع أي معافى بعافيته وهو غير آمن، ولن ينعم آكل الحرام بطعامه، ولن تنام عين في أمان وصاحبها ظالم متجبر. وبالجملة لا راحة ولا هدوء ولا اطمئنان ولا استقرار بدون أمن حقيقي. وصدق الرسول الكريم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام في قوله: “من أصبح آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه وليلته، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها“.

اجتناب عبادة الأصنام

طلب إبراهيم عليه السلام أن يجنبه الله تعالى وبني صلبه عبادة الأصنام، وهم يومئذ إسماعيل وإسحاق عليهما السلام. والأصنام جمع صنم، والصنم هو التمثال المصور. قال ابن عطية: “الأصنام هي المنحوتة على خلقة البشر، وما كان منحوتا على غير خلقة البشر فهي أوثان”[4]. والحق أن هذا الأمر الذي طلبه إبراهيم عليه السلام متسق مع مقصد عظيم من مقاصد الإسلام، وهو مقصد الحرية لأن عقيدة التوحيد التي جاءت بها الديانات السماوية، وخاتمتها الديانة الإسلامية تستهدف في في المقام الأول تحرير الإنسان من كل القيود التي تكبل فكره، وتأسر عواطفه، وتعوقه عن التمتع بثمرات كسبه المادية والمعنوية.

إن الاقتصار على عبادة الله وحده وإفراده بالعبودية دون سواه تحرير له من أفكار وأشخاص وأشياء كثيرة وضعها البشر ليستعبد بعضهم بعضا إما فكريا أو ماديا أو عاطفيا. وهو ما سبق أن أدرك منحاه المقاصدي والتحرري الصحابة الأوائل رضوان الله عليهم. فبعد أن وجه (رُسْتُم) إلى الصحابي الجليل ربعي بن عامر سؤاله قائلا: ما جاء بكم؟ قال: “الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام“[5].

———————-

1. وقد لاحظ الإمام بن عاشور رحمه الله كيف غير القرآن المجيد من الأسلوب، إذ سرعان ما انتقل إلى أسلوب الحكاية عن إبراهيم لإدماج التنويه بإبراهيم عليه السلام والتعريض بذريته من المشركين”. ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج: 13، ص: 238.

2. يراجع للتوسع في هذه الآية كتابنا قيد الإصدار من فقه الدعاء في القرآن الكريم، الجزء الأول.

3. الزمخشري، الكشاف، ج: 2، ص: 523.

4. ابن عطية، المحرر الوجيز، ج: 3، ص: 341.

5. يراجع تفاصيل حوار الصحابة مع قيادة الفرس في الطبري ابن جرير، تاريخ الأمم والملوك، دار الفكر 1979م، ج: 3 ص: 23، وما بعدها، أحداث (سنة 14هـ).

أرسل تعليق