Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

٪ تعليقات

هوادي التعرّف (2)

نشأ علم التصوف، كتجربة روحية، على أيدي علماءَ عاملين حفظَ الله بهم هذا الدين، ووضعوا له مبادئ وقواعد دقيقة، وضوابط وشروط صارمة، شأنه شأن بقية العلوم الشرعية سواء بسواء. ومن بين الذين ألّفوا في علم التصوف ومبادئه ومعارفه: العلامة الفقيه عبد الواحد بن عاشر الأندلسي الفاسي (990-1040هـ)، وهو من علماء وفقهاء القرويين، ويُعدُّ كتابه المنظوم “مبادئ التصّوف وهوادي التعرّف” مرجعا مُهِمّاً عند أهل السلوك، حيث اشتهر وعُرف به داخل المغرب وخارجه، وتلقته الأمة بالقبول، واعتنى به الناس حفظا وشرحا وتعليقا وختما.

وقد حرص ابن عاشر بإجماع علماء المغرب عموما على تحصيل علم التصوف على “طريقة الجنيد السالــك”، فألزموا أنفسهم وألزموا غيرهم به، حيث جعلوه عندهم من الثوابت التي تمتزج فيها أعمال الجوارح بأعمال القلوب، قال رحمه الله:

وبعد فالعـــون من الله المجيــد          في نظم أبيـــات للأمــي تفيـد

في عقـد الأشعري وفقه مالك          وفي طريقـــة الجنيد السـالـك

وإذا ألزم بها الأمي، فالعلماء بها ألزم، فافهم.

وفي ما يلي شرحٌ مختصرٌ لمنظومة “مبادئ التصّوف وهوادي التعرّف” لَعلَّهُ يكون للقلوب دواء، وللعقول اهتداء. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

توطئة (تتمة):

بين أعمال الجوارح وحركات القلب

قال ابن القيم الجوزية: “وهذا العلم (أي التصوف) مبني على الإرادة، فهي أساسه ومجمع بنائه، وهو مشتمل على تفاصيل أحكام الإرادة، وهي حركة القلب، ولهذا سمي “علم الباطن” كما أن “علم الفقه” يشتمل على تفاصيل أحكام الجوارح ولهذا سموه “علم الظاهر”… والصوفي ينظر في تلك الحركات من جهة كونها موصلة له إلى مراده أو قاطعة عنه، ومُفسدة لقلبه أو مُصحِّحة له”[1].

فإذا كان الفقه إذاً لا ينظر إلا في الأحكام الشرعية التي تتعلق بأعمال البدن للمكلَّفين؛ فإن الذي يبحث فيه التصوف هو “حركة القلب” حين أداء هذه الأعمال.

فالصلاةُ مثلا، ليست انحناء للبدن في الركوع والسجود فقط، بل وراءَ هذه الصورةِ روحٌ ومعنى، انشراحٌ وانفساح، حلاوةٌ وذوق، اطمئنان وخشوع؛ لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب بلالا لإقامة الصلاة فيقول “أرحنا بها يا بلال”[2]، ولِسانُ حالِ كثيرٍ مِنَ المسلمين اليوم هو: “أرحنا منها يا بلال”، قال تعالى: “وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ اِلاّ عَلَى الْخَاشِعِين” [البقرة 45]، أي “لثقيلة إلا على الخاشعين”[3].

وقُل مِثلَ ذلك في العبادات كلها التي ينبغي ألاّ تكونَ عبادات جافة، بل بمثابة محطاتٍ للاتصال بالله عز وجل انشراحاً وانفساحاً، حلاوةً وذوقاً، طمأنينةً وخشوعا… وهذا هو مدار التصوف.

فكما يتعلم المسلم أحكام الجوارح من صلاة وطهارة وغيرها، فعليه أن يتعلم أحكام القلوب أيضا لأهميتها في كل العبادات؛ لأن القلوب هي محل الابتلاء والتمحيص في جميع الأعمال؛ ولأن القلب كذلك أمير البدن، وبصلاحه تصلح بقية الجوارح؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب”[4].

قال صاحب اللمع: “وليس التفقُّه في أحكام هذه الأحوال ومعاني المقامات التي تقدّم ذِكرُها بأقلّ فائدة من التفقه في أحكام الطلاق والعتاق والظهار والقصاص والقسامة والحدود؛ لأن تلك أحكام ربما لا تقع في العمر حادثة تحتاج إلى عِلم ذلك، فإذا وقعت تلك الحادثة فمن سأل عنها قلَّدَ في ذلك، وأَخَذَ بقول بعض الفقهاء، فقد سقط عنهُ فرضُ ذلك إلى أن تقع به حادثة أخرى؛ وهذه الأحوال والمقامات والمجاهدات التي يتفقه فيها الصوفية ويتكلمون في حقائقها، فالمومنون مفتقرون إلى ذلك، ومعرفة ذلك واجبة عليهم، وليس لذلك وقت مخصوص دون وقت، وذلك مثل الصدق والإخلاص والذكر ومجانبة الغفلة وغير ذلك ليس له وقت معلوم، بل يجب على العبد في كل لحظة وخطرة أن يعلم إيش قصدُهُ وإرادته وخاطره؛ فإن كان حقا من الحقوق فواجبٌ عليه أن يلزمه، وإن كان حظّا من الحظوظ فواجب عليه مجانبته؛ قال الله تعالى لنبيه وصفيه محمد صلى الله عليه وسلم: “وَلاَ تُطِعْ مَنْ اَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطَا” [الكهف، 28]، فمن ترَك حالا من هذه الأحوال ما تركها إلا من غلبة الغفلة على قلبه. واعلم أن مستنبطات الصوفية في معاني هذه العلوم ومعرفة دقائقها وحقائقها ينبغي أن تكون أكثر من مستنبطات الفقهاء في معاني أحكام الظاهر…”[5].

يُتبع

————————————————–

  1.  طريق الهجرتين، دار عالم الفوائد، 1/449.

  2.  سنن أبي داود، دار الحديث، القاهرة، طبعة 1999، 4/2123، ح4985.

  3.  تفسير الجلالين، دار ابن كثير، ص: 8.

  4.  صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب من استبرأ لدينه، دار الحديث، القاهرة، طبعة 2004، 1/22، ح 52.

  5.  اللمع للسراج الطوسي، مكتبة الثقافة الدينية، طبعة 2002، تحقيق: شيخ الأزهر عبد الحليم محمود، ص: 36.

التعليقات

  1. الداودي زكية

    بسم الله الرحمن الرحيم

    يقول المولى عز وجل: "ان رحمة الله قريب من المحسنين" الاَعراف

    شكرا على هاته الإشراقات الربانية

  2. حسناء الخردالي

    نشكر جميع القائمين على إنشاء هذا الموقع لإبراز مدى أهمية علم التصوف الذي هو فعلا علم الباطن ومقام الاحسان..
    كما يسميه علماء الدين..
    جعلنا الله من المتذوقين والسالكين لهذا النهج القويم.
    امين

  3. نور الدين

    إنه العلم النافع الذي يرقق القلوب فتتنعمُ به في حضرة الله…
    إنه العلم الرباني الذي يلامس القلوب فتصفو به في رحاب الله…
    إنه العلم الذي يقرِّب من الله تعالى؛ قال حبيبنا صلى الله عليه وسلم: ما من يوم لم أزدد فيه علما يقربني من الله فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم…

    فيا معشر العلماء، ويا ورثة رسول الله، على هذا النهج سيروا، ومن هذا المنبع ارتووا…

    فاللهم بارك لنا في هذا العلم النافع، واجعلنا مع أهله ورواده
    وجزى الله الأستاذ على هذا العمل وجعله في ميزان حسناته.
    آمين

  4. مهموش

    تزكية لما جاء في هذه التوطئة القيمة قال ابن خلدون في المقدمة متحدثا عن التصوف (… من العلوم الشرعية الحادثة في الملة..) فقد وصفه بأنه علم قائم بذاته أي أن له منهجا يحكمه وقواعد تقننه.. كل ذلك بفضل جهود العلماء الربانيين وراث هذا العلم عن سيد الوجود صلى الله عليه وسلم وبفضلهم ظل يسري في الأمة كما يسري الماء في الورد ينقله خلف عن سلف..
    والوصف الثاني هو الشرعية ولا غرو فالتصوف الحقيقي ينضبط بنصوص كتاب الله وسنة رسوله عليه أفضل الصلاة و السلام.
    فشكرا لكم على اختيار هذا الموضوع فما أحوجنا إليه في عصر يعج بالماديات ويفتقر لهذه المعاني الروحية والأسرار الربانية التي تجعل الحياة حبلى بالطمأنينة والأمل..

  5. رشيد الوكيلي

    بارك الله فيكم سيدي وسدد خطاكم ورقاكم في مدارج السالكين إليه……………..

  6. خالد عمراوي

    جزاك الله عنا خير الجزاء، لما تبذله من مجهود علمي قائم على إبراز مدى أهمية هذا الموضوع المفيد علميا وسلوكيا وأخلاقيا وتربويا ….
    وأسال الله العلي القدير أن يجعل هذا العمل في في ميزان حسناته، وأن ينفع به الأمة الإسلامية جمعاء، إنه سميع مجيب .

  7. سعد

    ما أحوج الأمة إلى أن تتعلم أحكام القلوب، فلا عبرة بالعلم والجهاد والسخاء وبكل العبادات إذا كان القلبُ مريضا؛ ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح بأنّ أول من تُسعَّر بهم نار جهنم: المرائي بعلمه، والمرائي بجهاده، والمرائي بماله؛ فهذه أعمال سليمة في ظاهرها ولكن القلب غير سليم فليس العبرة إذا بظاهر الأعمال، ولكن العبرة بما وقَرَ في القلب، وإنَّ دواء القلوب في المدارس الصوفية الربانية…
    فجزى الله الأستاذ الفاضل على هذا الإحياء

  8. علي الإبراهيمي

    جزى الله الأستاذ الفاضل أحسن الجزاء،
    وأسأل الله العلي القدير أن يجعل هذا العمل في ميزان حسناته

أرسل تعليق