إن الإحرام والتلبية من الميقات فاعلم أن معناه إجابة نداء الله جل وعلا، فارج أن تكون مقبولا لا مطرودا، واخش أن يقال لك: “لا لبيك ولا سعديك” فكن على حذر؛ فإن وقت التلبية هو بداية الأمر، ومحل الخطر، قال أحمد بن أبي الحواري: “كنت مع أبي سليمان الداراني رضي الله عنه حين أراد الإحرام، فلما أراد أن يلبي أخذته غشية ثم أفاق وقال: يا أحمد إن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: “مُر ظلمة بني إسرائيل أن يقلوا من ذكري؛ فإني أذكر من ذكرني منهم باللعنة، ويحك يا أحمد بلغني أن من حج من غير… ثم لبى قال الله عز وجل: لا لبيك ولا سعديك حتى ترد ما في يديك، فما نأمن أن يقال لنا ذلك”.

ومعنى التلبية أيها الإخوة الكرام “لبيك اللهم لبيك” كأنك تقول: رب دعوتني إلى الحج، واخترتني من سائر الخلق، ودعوتني إلى أن أتحرك في الحياة بطاعتك، فيا رب أشهدك أنني لن أكتفي بإجابة واحدة، بل إجابة بعد إجابة، ومرة بعد مرة، لن أكتفي بإجابة واحدة، بل ستكون حياتي كلها إجابة لك، ومحرابا لعبادتك، ووسيلة لرضاك.

وأمر المحرم أن يلبي بعد الصلاة، ومعنى ذلك أن الصلاة هي باب الإقبال على الله تبارك وتعالى؛ لأن الصلاة تَنهى عن الفحشاء والمنكر، وأقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد في صلاة، ألا كيف يرحل إلى الله من هو مكبل بشهواته، أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته، أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته، فالصلاة هي معراج المؤمن، وإذا أراد بعبد خيرا فتح له باب مناجاته، وإذا فتح لك باب مناجاته فقد قربك.

وشرع الطواف إشارة إلى تعجيل إكرامه؛ لأن الضيف يجب أن يقدم إليه ما حضر، ثم يهيأ له ما يليق، والطواف هو التحية التي تليق بذلكم المقام الأشرف، ثم يركع بعد الطواف زيادة في القرب والمناجاة، وهو بجميع أنواعه عبارة عن صلاة، وأعظم ما في الصلاة الخشوع، فاحرص أن تخشع في صلاتك، ولا تظنن أن المقصود طواف البدن، بل المقصود طواف قلبك بذكر رب البيت، واعلم أنك بالطواف متشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش، الطائفين بالبيت المعمور في السماوات بإزاء الكعبة.

وأما السعي بين الصفا والمروة؛ فإنه يضاهي تردد العبد بفناء دار الملك جائيا وذاهبا، وغاديا ورائحا مرة بعد أخرى، إظهارا للإخلاص في الخدمة، ورجاء لملاحظته بعين الرحمة، وفيه إشارة إلى أن العبد ينبغي له أن يتردد في طاعة ربه بين صفاء القلوب بالتخلي من الأغيار، وبين المروءة بالخلق الحسن وترك السفاسف. وأمره بعد ذلك بالسعي والبداءة بالصفا إشارة إلى أن العبد إذا أطاع مولاه أوصلته طاعته إلى محل الصفا وصفاء القلوب، ثم أمر بالنزول والمسير إلى المروة إشارة إلى أن العبد ينبغي له أن يتردد في الاستقامة إلى الله عز وجل بين صفاء القلب بتزكيته من الكدورات والعلائق، وبين المروءة بالسمت الحسن وترك الإسفاف.

ثم أمرهم بالخروج إلى منى إشارة إلى بلوغ المُنى، ثم أمرهم بالمسير إلى عرفات؛ لأنها محل المعرفة والمناجاة، وأمرهم بالدعاء؛ لأنه ينور القلب، ويوجب انكساره وتذلـله.

وأما استلام الحجر: فاعتقد عنده أنك مبايع لله عز وجل على طاعته، فصمم عزيمتك على الوفاء، ولذلك نقول: “ووفاء بعهدك”.

وأما الالتصاق بالملتزم، فلتكن نيتك طلب القرب حبا وشوقا للبيت ولرب البيت، ولتكن نيتك الإلحاح في طلب المغفرة وسؤال الأمان، كالمذنب الذي انقطعت به الأسباب وادلهمت عليه السبل، فلا ملجأ له ولا منجى إلا كرم الله وعفوه.

وأما الوقوف بعرفة فاذكر بما ترى من ازدحام الخلق، وارتفاع الأصوات، واختلاف اللغات عرصات القيامة، وتحيرهم في ذلك الصعيد الواحد بين الرد والقبول، فإذا ذكرت ذلك فألزم قلبك الضراعة والابتهال إلى المولى جل وعلا، فالموقف شريف، وأفضل الدعاء على الإطلاق دعاء يوم عرفة… فالمقصود هنا هو الدعاء، والدعاء هو روح العبادة وسرها، وإنما يقبل بانكسار وتذلل وافتقار، والله جل وعلا إنما أباح لهم الجمع والقصر إشعارا بإرادته سماع أصواتهم وطول المناجاة معهم، وإن بركة بعضهم على بعض هناك كبركة الأنبياء والرسل على المؤمنين يوم المحشر، وقد روي أنه من صلى خلف مغفور له غفر له، فمن لطفه بنا أن شرع لنا الجماعة، وحضنا على الإتيان إليها، لعلك أن تصادف مغفورا له فيغفر لك.

فنسأل الله العظيم أن يصلح قلوبنا، ويحقق باليقين رجاءنا وآمالنا، وأن يقدمنا عليه وهو راض عنا، ويطهر قلوبنا من رعونات البشرية، اللهم اجبر صدع قلوبنا بالإقبال.