Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

سبيل التعايش (2/2)

      قال الله تقدست أسماؤه: “وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اَبْنَيَ ءَادَمَ بِاْلحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ اَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ اَلَاخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَمَّا يَتَقَبَلُ اللهُ مِنَ اَلْمُتًقِّينَ، لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ َيدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ” [سورة المائدة، الآيتان: 27-28]، وقال سبحانه كذلك: “وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ اَلْعَدَاوَةَ وَاَلْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَّامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الاَرْضِ فَسَاداً وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ” [سورة المائدة، جزء من الآية: 64].

      تشير هذه الآيات إلى المشكلة المزمنة، التي يتخبط في أتونها البشر منذ القدم، وحتى اليوم؛ ألا وهي مشكلة الفساد في الأرض. والقرآن العظيم يقارب هذه القضية من ثلاث زوايا:

      الأولى: حين استفهمت الملائكة عن المغزى من خلق الإنسان بقولها: “أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ” [سورة البقرة، جزء من الآية: 30]، فرد الله عليهم: “إِنِّي أَعْلَمُ مَالاَ تَعْلَمُون” [سورة البقرة، جزء من الآية: 30]. وهذا البيان الإلهي يرسم الأفق البعيد والمستقبل الباسم الذي سيتحرك باتجاهه الإنسان؛ فإنه وإن بدأت مسيرته بالفساد والقتل وسفك الدماء، فإن منحى تطوره، ومآل تجربته إلى الدلالة الإيمائية الواسعة لقوله تعالى: “إِنِّي أَعْلَمُ مَالاَ تَعْلَمُون” [سورة البقرة، جزء من الآية: 30].

      الثانية: يتحدث فيها القرآن عن آدم وزوجه حين نهاهما الباري سبحانه بقوله: “وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ” [سورة الأعراف، جزء من الآية: 19]، لكنهما ارتكبا النهي، وخالفا الأمر، فأكلا منها كما قال جل شأنه: “وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ اَنْهَاكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ” [سورة الأعراف، جزء من الآية: 22]، فكان جوابهما: “ربنا ظلمنا أنفسنا”، فاعترفا بخطئهما، وتحملا مسؤولية فعلهما، وعزما على تقويم الوضع الخاطئ وتصحيحه… وهذا سبيل الإنسان لتحسين سلوكه، وتطوير مدنيته، والتقدم في التاريخ؛ في مقابل سبيل إبليس الذي يصر على معصيته، مسوغا إياها تارة بحجة عنصرية “أنا خير منه”، وتارة بحجة فلسفية “فبما أغويتني”. والمغزى من هذا الحديث كما سبق؛ أن الأثرة، والشح، وضيق الأفق، والتمركز على الذات، والحرص على تبرئتها، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، والمسارعة إلى اتهام الآخرين، سبب لكثير من حالات المشاحنة، والتوتر، والصراع.

      الثالثة: قصة ابني آدم؛ فأحدهما لما فشل في عمله، ولم يتقبل منه؛ بادر إلى مواجهة صاحبه بالقول: “لأقتلنك” متهما له بأنه هو السبب فيما مني به من فشل، دون أن يتجشم عناء البحث عن الأسباب الموضوعية لهذا التصرف وعواقبه، ثم فكر وقدر أن تصفية أخيه، ومحوه من الوجود هو الحل؛ لكن الإنسان الآخر الذي ذاق طعم الإيمان، وأدرك جوهره الإنساني -المتمثل في الخروج من حالة الغريزة إلى حالة العقل –لم يقابل السيئة بمثلها؛ ولم يدرأ التهديد بمثله؛ بل قال: “لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ َيدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ” [سورة المائدة، الآية: 28]، وهذه إشادة عظيمة، وتزكية فذة لموقف الرجل المنبئ عن وعي عميق، وإصرار كبير على ألا يقاتل أخاه، وألا يلجأ إلى العنف بأي حال من الأحوال، فسن بذلك أسلوبا جديدا، وعهدا جديدا في التعامل مع الخصم، وشكل صنيعه هذا نقلة نوعية للوعي الإنساني؛ أسفر عن نبذ العنف، ودرء حل المشكلات والنزاعات بتصفية المخالف ومحوه من الوجود، والبحث عن صيغة توافقية، وأرضية مشتركة للتعايش والتفاهم معه. والمغزى من هذه المواقف كلها التنويه بشأن الإنسان، ومستقبله، وقدرته على تجاوز حالة الغريزة، والعنف والعنف المضاد، والاستفزاز السلبي، وسفك الدماء، إذا آب إلى رشده، ولم يُغلَب على عقله، واستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها؛ عروة “إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ” هذه واحدة؛ والثانية أن يجتهد في تطوير خبراته المجتمعية، ومؤسساته المدنية، بناء على ثقافة الشورى والحوار والتوافق، وإدارة الاختلاف، والمصالح المتعارضة بصيغة جماعية، تفاوضية قائمة على الاحترام المتبادل، وأسس العيش المشترك.

      إن وجودنا في هذا العالم ليس عبثا أو باطلا؛ وإن سعادة الإنسان تنبع من معانقته لقضية عادلة، وإن أقدس تلك القضايا على الإطلاق أن يتوقف العنف، والقتل، والفساد في الأرض، وأن يصطلح الإنسان مع أخيه الإنسان، وأن يبنيا معا مجتمع المعرفة، والعدل، والسلام، والتعارف، على نحو ما يشير إليه قوله جل وعلا: “إِنِّي أَعْلَمُ مَالاَ تَعْلَمُون” [سورة البقرة، جزء من الآية: 30]، وقوله: “كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِْلحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ” [سورة المائدة، الآية: 64]؛ فأقرب الناس إلى الله العاملون على إسكات طبول الحرب، وإخماد نيرانها، واتقاء أوزارها؛ الذين يواسون إخوانهم البشر بمختلف أنواع الإسعاف والمواساة، ويبذلون السلام للعالم، ويصنعون المجتمع الإنساني العالمي الذي يتساوى فيه أبناؤه وشركاؤه أمام القانون؛ لأن خلاصة القيم، وخلاصة الإيمان كما قال عمار بن ياسر: “الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار”.

أرسل تعليق