Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

دعاء يعقوب.. (3)

دعاء يعقوب.. (3)

قال الله عز وجل تقدست أسماؤه: “قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون” [يوسف 86-87].

سيقت الآية  في مقام ما سببه فراق يوسف وأخيه من الأم ليعقوب عليه السلام. تأسف هذا النبي على فراق ابنيه وبلغ به الحزن والهم إلى مبلغ ضعف البصر؛ إذ تبدل لون سوادهما من شدة الهزال. وهو ما يقصه القرآن المجيد في قوله تعالى: “وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ ياَأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ” [يوسف، 84- 85]. إن ابيضاض العينين من الحزن، أي من ملازمة البكاء الذي هو ثمرة الحزن. فالابيضاض كناية عن عدم الإبصار الناتج عن الحزن الذي ظهر في البكاء. ولا غرو في ذلك؛ لأن البكاء من الحزن أمر جبلي يصدر من الإنسان حتى و لو كان نبيا مرسلا[1]. وقد عاتبه أبناؤه كما في قوله تعالى: “تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين” [يوسف، 85][2].

ولم يسع يعقوب إزاء هذا الموقف من أبنائه إلا أن أرشدهم إلى ثلاثة أمور:

أولها تذكيرهم بأن حزنه وأسفه مظهر من مظاهر شكواه إلى الله تعالى كما في قوله: “ قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله[3]. فعلى الرغم من أسفه وهمه فإنه يتجه بشكواه إلى الله وحده دون سواه. أي أنه يقصد بشكواه الله وحده دون غيره. وقد حول هذا القصد شكواه إلى ضراعة، وهي كما قال الإمام بن عاشور رحمه الله “عبادة لأن الدعاء عبادة، و صار ابيضاض العينين الناشئ عن التذكر الناشئ عن الشكوى أثرا جسديا ناشئا عن عبادة مثل تفطر أقدام النبي صلى الله عليه و سلم من قيام الليل[4].

والأمر الثاني: متمثل في إرشادهم إلى البحث الحثيث والسعي المتستر عن يوسف وأخيه لقوله تعالى: “يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه”.

والأمر الثالث: نهيه عن اليأس في روح الله، أي في رحمته. فمهما طالت مدة فراق يوسف فلا تتعللوا بطول المدة عن مزيد من البحث فتتوقفوا. التوقف قد يكون دلالة على اليأس، واليأس من حصول الفرج ونيل الرحمة لا يكون من المؤمنين، وإنما يكون من الكفار لقوله تعالى: “إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون” [يوسف، 87][5].

و قد علق الأستاذ سيد قطب رحمه على هذه التوجيهات بقوله: “وفي هذه الكلمات يتجلى الشعور بحقيقة الألوهية في هذا القلب الموصول.. إن هذا الواقع الظاهر الميئس من يوسف، وهذا المدى الطويل الذي يقطع الرجاء من حياته فضلاً على عودته إلى أبيه، واستنكار بنيه لهذا التطلع بعد هذا الأمد الطويل في وجه هذا الواقع الثقيل.. إن هذا كله لا يؤثر شيئاً في شعور الرجل الصالح بربه. فهو يعلم من حقيقة ربه ومن شأنه ما لا يعلم هؤلاء المحجوبون عن تلك الحقيقة بذلك الواقع الصغير المنظور!

وهذه قيمة الإيمان بالله، ومعرفته سبحانه هذا اللون من المعرفة. معرفة التجلي والشهود وملابسة قدرته وقدره، وملامسة رحمته ورعايته، وإدراك شأن الألوهية مع العبيد الصالحين.. تجلو هذه الحقيقة بما لا تملك كلماتنا نحن أن تجلوها. وتعرض مذاقاً يعرفه من ذاق مثله، فيدرك ماذا تعني هذه الكلمات في نفس العبد الصالح يعقوب..

والقلب الذي ذاق هذا المذاق لا تبلغ الشدائد منه -مهما بلغت- إلا أن يتعمق اللمس والمشاهدة والمذاق ولا نملك أن نزيد”[6].

يتبع في العدد المقبل..

——————

1. روي أن الرسول الكريم محمدا عليه الصلاة والسلام بكى على ولد بعض بناته، وهو يجود بنفسه، فقيل: يا رسول الله، تبكي وقد نهيتنا عن البكاء؟ فقال: “ما نهيتكم عن البكاء، وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين: صوت عند الفرح، وصوت عند الترح“. ينظر سنن الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الرخصة في البكاء على الميت، ج: 3، ص: 318. قال الإمام ابن عاشور: “إن توالي إحساس الحزن على الدماغ قد أفضى إلى تعطيل عمل الإبصار” تفسير التحرير والتنوير، ج: 13 ص: 43. وينظر أيضا المحرر الوجيز، ج: 3 ص: 272.

2. قاله مجاهد ينظر الزمخشري، الكشاف، ج: 3 ص: 318. والحرض هو ما دون الموت.

3. البث هو الهم الشديد، والذي يقتضي التفكير في الشيء المسيء، وقد اهتم كيرا يعقوب بالتفكير في ما يمكن أن يتعرض له ابنه يوسف من كروب. والحزن هو الأسف على أمر فائت، وقد كان يعقوب آسفا على قراق ابنه يوسف.

4. ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج: 13 ص: 45.

5. أسند الطبري إلى الحسن انه قال: “كان بين خروج يوسف عن يعقوب إلى دخول يعقوب على يوسف ثمانون سنة لم يفارق الحزن قلبه، ولم يزل يبكي حتى كف بصره، و ما في الأرض يومئذ أكرم على الله من يعقوب” نقلا عن ابن عطية، المحرر الوجيز، ج: 3 ص: 274.

6. في ظلال القرآن في سياق تفسيره للآيتين 84 و 85 من سورة يوسف.

أرسل تعليق