Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

٪ تعليقات

الهجرة وانبثاق المشروع المجتمعي الإسلامي

      قال الله تقدست أسماؤه: “ان الذين أمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين اووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين امنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا” [سورة الاَنفال، الآية:72].

      هذه الآية بيان لمنزلة المهاجرين والأنصار، ومنزلة المؤمنين الذين لم يهاجروا، وبيان لنسب بعضهم من بعض، فبدأ الله بذكر المهاجرين لشرفهم وسابقتهم، إذ هم مادة الإسلام، وقوام حركته الأولى…

      وإذا كان اسم الهجرة وفضلها الخاص بها قد انقطع بعد فتح مكة لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا هجرة بعد الفتح”، ولقوله عليه الصلاة والسلام: “مضت الهجرة لأهلها”، فإن معناها باق إلى يوم القيامة؛ لأن الدفع بين الإسلام والقوى المناوئة باق إلى يوم القيامة، ولذلك قال: “لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية”، يعني بقي من الهجرة الجهاد، وكل عمل صالح تريدون به وجه الله تعالى كالهجرة من الأوطان فرارا بالدين، أو طلبا للعلم، وما إلى ذلك من تحصيل الفضائل والمصالح…

      وهاجر في أصل اللغة هي انتقال إقامة من موضع إلى موضع، تركا للأول وإيثارا للثاني؛ وهي مفاعلة من هجر، وهي ليست على وجهها، وإنما هي كناية عن أن الذي يهجر وطنه وقرابته، كأن الوطن أو القرابة يهجرانه أيضا، فهذا هو وجه المفاعلة فيه.

      وفي بعض معاجم اللغة الهجرة بمعنى الانتقال من البادية إلى الحاضرة، ولعله تصرف في أصل الوضع بعرف الاستعمال؛ على أن ذلك كان الغالب على حياة العرب، وفي التنزيل: “وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن اهل المدينة الآية” [سورة التوبة، الآية101] وقوله: “ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب ان يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بانفسهم عن نفسه” [سورة التوبة، الآية:120] فليلاحظ القارئ الكريم هذه المقابلة بين لفظ المدينة والتعرب، وفي الصحيح أن بريدة قال لسلمة بن الأكوع وقد خرج إلى البادية أرتددت على عقبيك، تعربت؟ قال: معاذ الله إني في إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم” وثبت في السنة النهي الشديد عن التعرب بعد الهجرة، واعتبرت ذلك من الذنوب الكبائر.

      فمعنى الهجرة على هذا الانتقال إلى المستقرات العمرانية الحضرية، ويستفاد منه أن الإسلام يقوم على مبدأ التهذيب الحضاري، وتذويب حالة البداوة، ويقصد إلى إنشاء علاقات اجتماعية بين الأفراد والجماعات قائمة على مبادئ الاجتماع المتمدن؛ ولذلك سميت المدينة بهذا الاسم البديع كأنه إلهام إلهي أو وحي صريح ساق النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يسميها بهذا الاسم الذي يقترن بهذه المعاني.

      على أن الشارع الأقدس استعمل هذه الكلمة بمعناها الواسع العام، إنها حركة اكتشاف وبحث دائم، وسفر متجدد ليس على صعيد الجغرافيا فحسب، ولكن على صعيد الزمان والروح كذلك.

      ولذلك يتحدثون في هذا السياق عن الانتقال النفسي أو المعنوي، والانتقال الحسي. والانتقال الحسي هو ما تباحثه الفقهاء بمعنى الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام، أو الخروج من موضع لا يتمكن المرء فيه من إقامة دينه وإظهاره؛ لأنه مقصود الشرع أن يكون الدين ظاهرا، وليس سرا مستترا… وغرض الشرع ألا تجري أحكام الكفر على إنسان مسلم تحت الذل والصغار، ولا يجوز لمسلم أن يتحمل الذلة والمهانة بأي شكل من الأشكال؛ لأن ذلك مخالف لمعهود عزة المسلم وشرفه، وداع إلى احتقار الدين واهتضامه ولذلك، كانت الهجرة بابا عظيما من أبواب الجهاد، ونرى القرآن دائما يقرنها  بالإيمان والجهاد حتى قال قتادة في تفسير قوله تعالى: “والذين امنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا” [سورة الاَنفال، الآية: 72] قال: “أبى الله أن يقبل إيمان من آمن في صدر الإسلام ولم يهاجر”.

      وفي نصوص السنة ما يشعر بأن الذي يقصد دار الهجرة لا يعلن ارتباطه بدين الجماعة فحسب، بل بوحدتها الاجتماعية، وقيادتها السياسية المتمثلة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالنسائي مثلا يدرج موضوع الهجرة في باب البيعة، وورد في سنن أبي داوود قوله صلى الله عليه وسلم: “آمركم بخمس، بالجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد، ومن خرج من الجماعة فكأنما نزع ربقة الإسلام من عنقه”.

      ومعنى هذا أن المدينة ـ التي بوأها الله ملاذ الهجرة ـ كانت تشهد ميلاد الجماعة الأولى للأمة، إذ كان المطلوب من جميع المؤمنين في جميع أنحاء الأرض أن ينفروا للانتظام  في هذه الجماعة، والمشاركة في إنشائها وتكوينها إيجادا وحفظا… ولقد كانت جماعةَ الإسلام الوحيدةَ في نظر القرآن حتى فتح مكة، ولذلك قال سبحانه: “والذين امنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا”، أي ليس بينكم وبينهم موالاة. والموالاة هي الحب والتعاون والنصرة، أو بعبارة أخرى: هي الرابطة الاجتماعية والسياسية وشتى العلاقات التي يحصل بها تبادل المنافع والمصالح بين المؤمنين في إطار مفهوم الأمة.

      ومعنى هذا أن نشوء الأمة بمعناها الإسلامي، وانبثاق مشروعها الجمعي الحضاري المستقل إنما وقع  في المدينة؛ فعلى أساس حركية الهجرة تكون الوطن الإسلامي الأول تكونا حقيقيا على اعتبار أن الوطن يستمد حقيقته من كيان الأمة وخصائصها الثقافية والعقدية والمعنوية لا أن الأمة تستمد حقيقتها وهويتها من كيان الوطن وحدوده الجغرافية والعرقية أو العنصرية.

      ومن هنا كانت الهجرة حدثا عظيما في التاريخ، وكانت جديرة بما أجمع عليه المسلمون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه من كونها نقطة بداية تاريخ هذه الأمة. وهذا الاختيار الذي وقع عليه الإجماع يستحق الكثير من التأمل. وللحديث بقية والسلام.

التعليقات

  1. رشيد سودو

    أخي الحبيب الدكتور عبد الحميد عشاق؛ أستأذنك في إضافة وملاحظة..
    الإضافة حول المهاجرة من باب المفاعلة: [إذا تنكر الوطن وساكنوه لإنسان ما، فيعيش بينهم محروما من فرص العيش الكريم، ولا يجد بينهم ما يسد به حاجاته المادية والمعنوية؛ فقد هجروه ونبذوه. ولهذا سيجد نفسه مضطرا على الرد عليهم بالمثل فيهاجرهم غير آسف عليهم، وهذه هي المهاجرة من باب المفاعلة.. وفي شعر الشافعي رحمه الله ما يشهد لهذا المعنى..
    قال رحمه الله:
    سافر تجد عوضا عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
    إني رأيت وقوف الماء يفسده إن سال طاب وإن لم يجري لم يطب
    والأسد لولا فراق الغاب ما افترست
    والسهم لولا فراق القوس لم تصب
    والترب كالترب ملقى في أماكنه
    والعود في أرضه نوع من الحطب
    ولولا الهجرة ما قامت للإسلام دولة]
    والملاحظة حول النهي عن سكنى البادية أو الرجوع إليها بعد تركها: [لا بد من الوقوف على ما بين البادية الصحراوية الجافة التي لا تنبض بالماء ولا تنبت الكلأ، والبادية الخصبة التي هي بحاجة لمن يستثمرها والتي ورد الترغيب في إحيائها بقوله صلى الله عليه وسلم : ((من أحيا أرضا مواتا فهي له)) والحديث خرج مخرج النبوة وليس مخرج الإمامة، وخصوصا الأرض البعيدة عن العمار التي لا يقع عليها التخاصم والتشاح، كما هو اختيار مالك رحمه الله.. ولعل ما ورد في النهي عن الرجوع إلى البادية خرج مخرج الإمامة وهو رهين بما يترتب عليه من مصالح ومفاسد].
    بارك الله في نظرك وأجرى لسانك وقلمك بما يرضيه ويصلح عباده
    ..

  2. الشيخ نور الإسلام أحمد الملا

    ما شاء الله كان تدخلي فاتحة خير لأتعرف على أساتذة أفحال
    قلت لنفسي ربما تكون إحدى الآيات خاطئة كما في تعليق الأخ أبا سفيان في شذرات من الميثاق
    لكن الحمد لله جهود مباركة لكل الطاقم الساهر على تلكم الجريدة "الكمال لله وحده".

  3. مجيد الأخ

    سلام الله عليكم وكل عام وأنتم بخير
    بداية أقول أن الأستاذ الفاضل ألم بموضوع هجرة نبينا الأكرم مما لا يدع مقاما لإضافة أي فكرة.
    ولكن حدث الهجرة يحمل في طياته معان عظيمة على المسلمين في بقاع العالم الإسلامي تدبرها وأهمها الهروب من إذاية المشركين للمسلمين الأولين تاركين أموالهم وأولادهم حفاظا على دينهم، واليوم المتتبع لحال المسلمين يرى أنهم تركوا الدين لأجل دنياهم وهجروا بيوت الله وصالح الأعمال لصالح غرائزهم وملذاتهم ولم يدركوا غاية الهجرة النبوية التاريخية والمستقبلية إذ أن الرسول (ص) أراد بهجرته إدراك أمته غاية الهروب والانتقال فداء للدين حتى يرسخ فيهم الثبات على عقيدة التوحيد..
    واليوم نرى أن الهجرة لا تعدو أن تكون يوم عطلة، فَقَدَ تُجاهها المسلم فعل التذكر والتدبر ليهاجر إلى الله ويقتدي بنبيه (ص)، فحري بنا أمة الإسلام تدبر هذا الحدث الإسلامي للهجرة بجهاد أكبر إكثارا من الصالحات، وأداء العبادات، والاقتداء بهدي نبينا المصطفى حتى نبقى على المحجة البيضاء، ونبقى خير أمة أخرجت للناس .
    فاعتبروا أيها الأفاضل بما ورد بمقال الأستاذ حتى نرتقي بديننا ونصلح دنيانا. وحدث الهجرة في عمقه الديني ورمزيته الإسلامية كفيل بأن يعطينا الحافز للمساهمة -كل واحد من موقعه- في صحوة أمتنا الإسلامية.
    والله ولي التوفيق وكل عام وأنتم بهجرة المعاصي منصورين ومنتصرين.
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وجزى الله عنا الكاتب والميثاق أجزل الجزاء..

أرسل تعليق