Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

إصلاح الإصلاح

تاريخ الفكر الإسلامي حافل بدعوات الإصلاح التي ظلت مستقرة في وعي الأمة إزاء كل خلل أو انحراف عن المقاصد العامة للمهمة الاستخلافية للإنسان. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن هذا الإصلاح يولد إصلاحا آخر يقوّمه ويسدد مساره، الأمر الذي يدعو إلى التأكيد على أن من خيرية الأمة أن كل حركة إصلاحية فيها إلا وتحمل بذور التصحيح في ذاتها تساوقا مع شهودها الحضاري على الناس.

لتوضيح هذا الأمر نقف وقفة مقتضبة مع ثلة من النقاد والمفكرين الذين رصدوا خطوات الحركة الإصلاحية التي عرفها الفكر الإسلامي الحديث، والتي تزعمها رواد من مغرب العالم الإسلامي ومشرقه، والذين كان لهم الأثر الكبير في المساهمة الفعالة في تحريك عجلة النمو الحضاري للأمة.

نبدأ مع الأستاذ أحمد أمين الذي ختم كتابه (زعماء الإصلاح في العصر الحديث) بنقد الاختلافات والمسالك التي سلكها المصلحون، وأكد على أنها اتسمت بالتباين والتباعد، بل وكانت منطلقة من أمزجتهم وتربيتهم وأفكارهم، ونشأ عن هذا اختلاف كبير في العقليات، لا اختلاف بسيط، كالذي يكون بين أفراد الصنف الواحد، ولكنه اختلاف كبير كالذي يكون بين الأصناف المتعددة.

ومن هنا يرى الأستاذ أحمد أمين أن مهمة المصلحين هي إشعال النار القوية تحت هذه الخلافات حتى يتم امتزاجها ويذهب زبدها، والزمن كفيل بذلك، وغيرة المصلحين وحماستهم تعمل على سرعة الوصول إلى الغاية.

أما الأستاذ محسن عبد الحميد فيرى أن منهج الحركة الإصلاحية التي عرفها الفكر الإسلامي الحديث كان متميزا بالدفاع عن العقيدة وأمورها أمام الحضارة الغربية، ثم أعقبه منهج “هجومي تحليلي” ساهم في إطلاع المسلمين على الجوانب السلبية في الحضارة الغربية، وذكرهم بشخصيتهم الإسلامية المستقلة، ودفعهم إلى مواقف الاختيار الحر، والبعد عن التبعية الذليلة لمراكز تلك الحضارة في كل شيء. ولاحظ الأستاذ محسن عبد الحميد في كتابه “تجديد الفكر الإسلامي” أن هذا المنهج غير سليم حيث يفوت على أهله فرصة المواجهة العقلية الهادئة من منطلق طلب الحق لذاته، والاستفادة من تجارب البشرية كلها على أساس أن المجتمع البشري من حيث الدوافع الإنسانية هو وحدة واحدة، بين أفرادها جسور مشتركة كثيرة.

وفيما يخص الأستاذ طه جابر العلواني فإنه ينفي عن الحركة الإصلاحية الحديثة صفة “الإصلاح الشمولي” والتجديد والتغيير التي سلكت مسالك عالجت فيها أمورا وفاتتها أمور أخرى، وبذلك لم يأخذ الإصلاح شكله الشمولي كما تحدث عنه كثير من الباحثين والمفكرين، فانشغلت معظم حركات الإصلاح بمعالجة مظاهر الأزمة وما تنعكس عليه من آثار يومية مباشرة، أما جذورها ومنابعها فلم تأخذ حظها من البحث والدراسة ثم المعالجة. ويقترح الأستاذ العلواني في مؤلفه “إصلاح الفكر الإسلامي” القيام بمحاولة إصلاحية معرفية ومنهجية، تستطيع رصد سائر أسباب الأزمة ومنابعها، وتقدم للأمة منهاجا سليما لإعادة البناء، وهذا هو ما يحاول القيام به المعهد العالمي للفكر الإسلامي -الذي ينتسب إليه الأستاذ العلواني- من خلال أبحاث ودراسات وندوات عالمية.

ونختم هذا الرصد النقدي للحركات الإصلاحية في الفكر الإسلامي الحديث بدراسة قيمة للأستاذ عبد المجيد النجار في كتابه (مشاريع الإشهاد الحضاري)، حيث خصص الفصل الثاني لدراسة “المشروع التحرري”، وهو ما اصطلح عليه بالاتجاه الشمولي في الإصلاح، وقدم دراسة تحليلية ونقدية مستفيضة للمشروع الإصلاحي، أعلاما ومضمونا ومنهجا وتعقيبا، فكان من بين الأمور التي لاحظها على هذا المشروع هو عدم تحقيقه لغايته التي كان يسعى إليها طيلة سنوات عدة، حتى إن حال الأمة اليوم لا يختلف كثيرا عن حالها في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي؛ مؤكدا على أن المطالب الكبرى التي كان يطلبها أعلام التحرر قبل قرن مازالت هي المطالب التي تطلب اليوم. ثم تساءل قائلا: هل يمكن أن يقال إذن إن مشروع التحرر قد فشل في تحقيق غايته؟ فكان الرد: إن الجواب على ذلك بالإيجاب هو الأقرب إلى الصواب.

والملاحظ أن أغلب النقاد يقدمون إلى جانب ملاحظاتهم المنهجية أعذارا متعددة لحركة الإصلاح الحديثة وروادها، وكأن لسان حالهم يقول: إنه ليس في الإمكان الإبداع أكثر مما كان، خاصة إذا ما نظرنا إلى السياق العام الذي نشأت فيه الأفكار الإصلاحية في الفكر الإسلامي الحديث، وهذا أمر موضوعي يجب الإقرار به والتصديق عليه، وهو عين ما نص عليه شيخ العارفين برواد الحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي الأستاذ أحمد أمين بعد أن بين الوضعية المزرية التي كانت عليها الأمة، فأكد في كتابه (زعماء الإصلاح) على أنه كان من طبيعة هذا أن يتقدم الصفوف زعماء للإصلاح يشعرون بالآم شعوبهم أكثر مما تشعر، ويدركون الأخطار المحيطة بها أكثر مما تدرك، ويفكرون التفكير العميق في أسباب الداء ووصف الدواء.. وكل قد أبلى بلاء حسنا، ولاقى في العناء ما لا يتحمله إلا أولو العزم.. أحبوا مبدأهم في الإصلاح أكثر مما أحبوا الحياة، ولم يعبأوا بالعذاب يحيق بهم في سبيل تحقيق فكرتهم.. وكان من حقهم علينا أن نحيي سيرتهم، ونجدد ذكرهم، ونبين مبادئهم..

أرسل تعليق