التربية العقلية في الإســــلام.. (12)
منهج الإسلام في تربية العقل
تعنى التربية في الإسلام بتربية العقل، أي تزويده بالمعلومات والمعارف والخبرات والتجارب، التي تساعد في تكوين الفرد المسلم العابد الصالح، عنايتها بتربية الجسد وتربية الروح، بهدف خلق الشخصية المسلمة المتكاملة، التي تسهم في بناء المجتمع المسلم. فما المنهج الذي سلكه الإسلام في تربية العقل؟
1. تحديد مجال النظر العقلي
من المعلوم أن الإسلام دين الفطرة، فهو يحترم الطاقات كلها، ويعطي لكل منها حقها ويستثمرها إلى أقصى حد لصالح الإنسان، ولذلك فهو يحترم العقل ويعلي من شأنه، ويغويه بالبحث والتفكر والنظر والتأمل، ويربيه التربية البناءة التي تجعله يختار طريق الحق. ولكي يحقق الإسلام هذه الغاية فإنه “يبدأ التربية العقلية بتحديد مجال النظر العقلي، فيصون الطاقة العقلية أن تتبدد وراء الغيبيات التي لا سبيل للعقل البشري أن يحكم فيها، وهو يعطي للإنسان نصيبه من هذه الغيبيات بالقدر الذي يلبي ميله للمجهول، ولكنه يكل أمر ذلك إلى الروح، فهي القادرة على ذلك المزودة بوسائل الوصول. أما العقل فوسيلته إلى الله وإلى معرفة الحق هي تدبر الظاهر للحس والمدرك بالعقل، ومن ثم يحدد الإسلام مجاله بهذا النطاق، ولا يتركه يغرق في التيه الذي غرقت فيه الفلسفة من قبل واللاهوتيات، فلم تصل إلى شيء حقيقي ستحق ما بذل فيها من جهد، إن لم تكن قد غبشت مرآة الفكر البشري وشتت ما ينعكس عليها من أضواء“[1].
2. تدريب الطاقات العقلية على الاستدلال
الاستدلال العقلي أحد مقومات الفكر في الإسلام، والإسلام يقوم على فكر صحيح ومقومات استدلالية تزيل الفاسد في العقلية، وذلك حتى يتأتى البناء الفكري على نحو صحيح وأساس سليم، وبعد أن يحدد الإسلام مجال النظر العقلي، يأخذ في تدريب الطاقة العقلية على طريقة الاستدلال المثمر والتعرف على الحقيقة، فيتخذ في ذلك وسيلتين:
الأولى: وضع المنهج الصحيح للنظر العقلي: ويصل إليها بطائفة من التوجيهات والتدريبات.
أ. تفريغ العقل من كل المقررات السابقة التي لم تقم على يقين، وإنما قامت على مجرد التقليد أو الظن، فينعى على المقلدين الذين يقولون: “إنا وجدنا ءَاباءنا على أمة وإنا على ءَاثارهم مقتدون” [الزخرف، 22]، وينعى على الذين يتبعون الظن: “اِن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا” [النجم، 28].
ب. الأمر بالتثبت من كل أمر قبل الاعتقاد به واقتفائه: “ولا تقف ما ليس لك به علم اِن السمع والبصر والفؤاد كل أولائك كان عنه مسؤولا” [الاِسراء، 36][2].
الثـانية: تدبر نواميس الكون: إن النواميس الكونية تجري في دقة عجيبة، ونظام لا يختل، والتدبر والتفكر والتأمل في هذه النواميس ترشد العقل إلى تقوى الله، وتعوده على دقة النظر والتأمل وانضباط الأحكام التي يصدرها، وتطبعه طابع الدقة والتنظيم، ويؤكد الإسلام على أن هذا التدبر والتأمل في نواميس الكون وآياته ليس غاية في ذاته، بل غايته إصلاح القلب البشري، وإقامة الحياة في الأرض على أساس القيم الثابتة في منهج الله تعالى وشريعته كالحق والعدل والخير[3].
وهكذا فإن المنهج التربوي الإسلامي للتأمل في ملكوت الله، يبدأ بالتفكير وينتهي بالعمل بمقتضى منهج الله عز وجل، والجهاد في سبيل إقرار هذا المنهج…
يتبع في العدد المقبل..
——————————-
1. محمد قطب، المصدر السابق، ص: 77.
2. فأصحاب الكهف مثلا يقولون: “هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه ءَالهة لولا ياتون عليهم بسلطان مبين” [الكهف، 15]؛ أي هلا يقدمون دليلا واضحا على هذه الآلهة التي يتخذها القوم من دون الله؟ دليلا يثبت منه العقل قبل اقتفائه؟ فهذه الآية وغيرها كثير توجيه وتدريب للطاقة العقلية على طريقة العمل الصحيحة، ومنهج التفكير السليم. “سيد قطب: منهج التربية الإسلامية، ص: 78.
3. محمد قطب، منهج التربية الإسلامية، ص: 80.
أرسل تعليق