Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه..

      الطيب خلاف الخبيث، إلا أنه قد تتسع معانيه، فيقال: أرض طيبة للتي تصلح للنبات، وريح طيبة إذا كانت ليِّنة ليست بشديدة[1]، وطعام طيب إذا كان متناولا من حيث يجوز، وبقدر ما يجوز ومن المكان الذي يجوز؛ فإنه متى كان كذلك كان طيبا عاجلا وآجلا لا يُستوخم، وإلا فإنه -وإن كان طيبا عاجلا- لم يَطِب آجلا[2].

      أما الخُبث، فأصله في كلام العرب: المكروه؛ فإن كان من الكلام فهو الشّتم، وإن كان من المِلل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضّار[3].

      والطيب من الإنسان من تعرّى من نجاسة الجهل والفسق وقبائح الأعمال وتحلّى بالعلم والإيمان ومحاسن الأعمال، وإياهم قصد بقوله: “الذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ” [النحل، 32]، وأما قوله: “وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُ‌جُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَ‌بِّهِ وَالذِي خَبُثَ لَا يَخْرُ‌جُ إِلَّا نَكِدًا” [الاَعراف، 57]، فإشارة إلى الأرض الزكية[4]، التي يخرج نباتها سريعا بَهِجاً عند نزول المطر، أما البلد الخبيث فلا يكاد يُنبت؛ فإن أنبت أخرج نبتا خبيثا لا خير فيه.

      والمقصود من هذه الآية: التمثيل، وليس المقصود مجرد تفصيل أحوال الأرض بعد نزول المطر؛ لأن الغرض المسوق له الكلام يجمع أمرين: العبرة بصنع الله، والموعظة بما يماثل أحواله.

      والمعنى: إنما ينتفع برحمة الهدي من خُلقت فطرته قابلة للهدى كالبلد الطيب ينتفع بالمطر، ويحرم من الانتفاع بالهدى من خُلقت فطرته خبيثة كالأرض الخبيثة لا تنتفع بالمطر فلا تنبت نباتا نافعا[5].

      وقديما قالت الحكماء: النفوس الإنسانية مختلفة بالماهية يدل عليها اختلاف صفاتها بالإشراق والإظلام[6].

      ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: “تجدون الناس معادن: خيارُهم في الجاهلية خيارُهم في الإسلام إذا فَقِهُوا”[7]. أي أصولا مختلفة، والمعادن جمع: معدن، وهو الشيء المستقر في الأرض، فتارة يكون نفيسا وتارة يكون خسيسا، وكذلك الناس[8]، فمن اختبر أحوالهم رأى أن المعروف يخرج من الطيبين عفوا بلا تكلّف، وأن الخبيثين لا يخرج منهم الخير والمعروف، ولا الحق الواجب عليهم إلا نكدا، بعد إلحاف أو إيذاء في الطلب، أو إدلاء إلى الحكام، ومراوغة في الخصام[9].

      فلا يجوز في الحكمة كما قال القفال، أن نسوي بين المُسيء والمُحسن، وإلا كان إغراء بالمعاصي وإباحة لها، وإهمالا للطاعات وتنفيرا عنها[10].

      فالخبيث لا يُساوي الطيب مقدارا ولا إنفاقا ولا مكانا ولا ذهابا، وهذا عام في جميع الأمور: في المكاسب والأعمال والناس، والمعارف من العلوم وغيرها، فالخبيث من هذا كله لا يُفلح ولا يُنجب، ولا تحسن له عاقبة وإن كثُر، والطيّب، وإن قَلَّ، نافع جميل العاقبة[11]، “قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوَ اَعْجَبَكَ كَثْرَ‌ةُ الْخَبِيثِ” [المائدة، 102].

      ومن دقة البلاغة في هذين التعبيرين: “الطيّب” و “الذي خبث”، دلالتهما على الترغيب في طلب الرسوخ في صفات الكمال وتجنب أدنى الخبث والنقص، وبين ذلك درجات..[12].

      ولما كان هذا الرسول النبي الأمي، خير الخلق وأفضلهم عند الله سبحانه، كانت أمته خير أمة وأفضلها، فما يحسن بمن كان من خير الأمم وانتسب إلى متابعة خير الخلق وأفضلهم، إلا أن يكون متصفا بصفات الخير، مجتنبا لصفات الشر وقبيح به، أن يرضى لنفسه أن يكون من شرار الناس مع انتسابه إلى خير الأمم ومتابعة خير الرسل[13]. قال النبي صلى الله عيه وسلم: “خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَى خَيْرُهُ وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ، وَشَرُّكُمْ مَنْ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ”[14].

——————————————————

  1.  لسان العرب لابن منظور، 4/2731.

  2.  المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني، ص: 402.

  3.  لسان العرب، 2/2/1089.

  4.  المفردات في غريب القرآن، ص: 402-403.

  5.  التحرير والتنوير لابن عاشور، 8/184. (بتصرف).

  6.  غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري، 3/302.

  7.  صحيح البخاري، ص: 864/ كتاب. “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا” [الحجرات، 13] / رقم: 3493.

  8.  فتح الباري لابن حجر، 6/529.

  9.  تفسير المنار، 8/483.

  10.  غرائب القرآن للنيسابوري، 3/302.

  11.  الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 8/225.

  12.  تفسير المنار، 8/ 483.

  13.  لطائف المعارف لابن رجب، ص: 221.

  14.  سنن الترمذي، ص: 513. كتاب الفتن، باب 76، رقم: 2263.

أرسل تعليق