هوادي التعرّف (42)
التصوف على “طريقة الجنيد السالك” حَسب ما سُطِّر في منظومة فقيه القرويين ابن عاشر، ووِفق ما تَوارث في الأمة، يتــقــعّــد على ثمانية شروط ومبادئ:
المبدأ السادس في طريق التصوف: الإكثار من الذكر (5)
وفي ختام شرط الذكر في طريق السلوك، يشير الناظم بقوله: “وَالعَوْنُ فِي جَمِيعِ ذا بِرَبِّه” إلى أن الأساس الذي ينبني عليه طريق السلوك إلى الله تعالى هو أن يجعل السالك معتمد أمره الاستعانة بالله تعالى، ولا يرى لنفسه حولا ولا قوة في كثير عمله ولا في قليله، قال ابن عباد الرندي: “من أنزل حوائجه بالله تعالى والتجأ إليه، وتوكل في أمره عليه، كفاه كل مؤنة، وقرب عليه كل بعيد، ويسر عليه كل عسير، ومن سكن إلى عمله وعقله، واعتمد على قوته وحوله، وَكَّله الله تعالى إلى نفسه، وخذله وحرمه توفيقه وأهمله، فلم تنجح مطالبه، ولم تتيسر مآربه”[1].
وقال ابن عطاء الله في الحكم: “ما توقف مطلب أنت طالبه بربك، ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك“، وقد تقدم هذا المعنى في قول الناظم: “ليس الدواء إلا في الاضطرار له“.
فالقيام بالأذكار والمداومة عليها إنما يستقيم ويتيسر لأهل اليقظة، الذين يرجعون في كل أمورهم إلى الله تعالى؛ قال تعالى: “وَمَا تَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله” [المدثر، 55]، فالذكر لا يقع إلا مشروطا بمشيئة الله، وقد تكرر هذا في القرآن تكررا ينبه على أنه حقيقة واقعة كقوله: “وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله” [الاِنسان، 30]. قال صاحب التحرير والتنوير في تفسيره: “فعلمنا (الله) أن للناس مشيئة هي مناط التكاليف الشرعية والجزاء في الدنيا والآخرة، وهي المعبر عنها عند أهل التحقيق من المتكلمين بالكسب كما حققه الأشعري.. وأن لله تعالى المشيئة العظمى التي لا يمانعها مانع، ولا يقسرها قاسر، فإذا لم يتوجه تعلقها إلى إرادة أحد عباده لم يحصل له مراد. وهذه المشيئة هي المعبر عنها بالتوفيق..
إن من أسماء الله الحسنى “المستعان“، وفيه إشارة إلى أن البداية تكون منه تعالى، ثم يفتح للعبد من حيث لا يحتسب، وبدون المعونة من الله يجد المرء نفسه بلا توفيق معنويّ وروحيّ، وبلا استعداد وقوّة على فعل الخير وعلى الإكثار من ذكر الله والمواظبة عليه..
والمريد السالك يقرأ كل يوم في صلاته سبعة عشر مرة -فأكثر- قول الله عز وجل: “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ” [الفاتحة، 4]، وكأن الدين ينقسم لنصفين: نصف للعبادة، ونصف للاستعانة. وفي الحديث الصحيح “.. إذا قال العبد: “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ“، يقول الله عز وجل: هذا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي ما سَأَلَ“[2].
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يُكثر من طلب العون من الله عز وجل، وكان يُعلِّم أصحابه ذلك؛ حيث أخذ بيد صاحبه معاذ بن جبل وقال له:” يا معاذ إني لأحبك، فقال له معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله وأنا أحبك، قال: أوصيك يا معاذ، لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك“[3]، فهذا دعاء وطلب للمعونة من الله على ثلاثة أشياء: الذكر، والشكر، وحسن العبادة.. ولعل الدعاء والتضرع إلى الله هو من أعظم ما يساعد على الحفاظ على الذكر والإكثار منه..
وفي الحديث المتفق عليه، يقول الله تعالى: “أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني.. “[4]،جاء في شرح: (وأنا معه): أي: بالتوفيق والحفظ والمعونة[5].
———————————————
1. انظر: غيث المواهب العلية، ص: 46.
2. صحيح مسلم، ح: 603.
3. المستدرك على الصحيحين، ح: 948.
4. صحيح البخاري، ح: 6970.
5. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، علي بن سلطان محمد القاري، ح: 2264.
أرسل تعليق