لا عمل أرجى للقلوب من عمل يغيب عنك شهوده ويحتقر عندك وجوده
في هذه الحكمة المباركة يجلي الشيخ بن عطاء الله رضي الله عنه الصلة بين صلاح القلوب وصالح الأعمال أخذا من مشكاة قوله تعالى: “قد اَفلح من تزكى وذكر اَسم ربه فصلى بل توثرون اَلحياة الدنيا والاَخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصّحف الاُولى صحف إبراهيم وموسى” [سورة الاَعلى، الآيات: 14-19]، وقوله سبحانه: “اِليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه” [سورة فاطر، الآية: 10]، وقوله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ تَصْدَأُ، كَمَا يَصْدَأُ الْحَدِيدُ إِذَا أَصَابَهُ الْمَاءُ”، قِيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا جِلاؤُهَا ؟ قَالَ: “كَثْرَةُ ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَتِلاوَةُ الْقُرْآنِ” [شعب الإيمان للبيهقي، ح: 1863]، وقوله صلى الله عليه وسلم: “تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ” [صحيح مسلم، كتاب الإيمان، ح:211]، غير أن أعظم هذه الأعمال الصالحة إصلاحا للقلوب وأرجاها لها، تلك التي لا يقف عندها ولا معها العبد، وإنما يراها قليلا في حق الله تعالى، ويستبصر بما يلابسها من نقص من حيث النية الكامنة وراءها، وكذا من حيث قصورها عن الاقتراب من كمالها الذي تجسّدت به عند من علّمنا إياها، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند الكُمَّل من أتباعه، فالعبد الذي يستحضر غفلاته، وأضرب تفريطه في جنب الله، وأصناف وألوان تلبّس الرياء والمنّ والأذى قَلّ ذلك أم جَلّ، بأعماله؛ فإنه لا ينفك عن احتقارها في جنب الله سبحانه وتعالى، وهو قول الشيخ رحمه الله: “عمل يغيب عنك شهوده”، أي لا تقف عنده ولا معه، وقوله رحمه الله: “ويحتقر عندك وجوده” أي بالمقارنة مع الغفلات والتفريطات في حق الخالق البارئ جلّ وعز..
وقد تجلّى مقام عدم شهود الأعمال واحتقار وجودها بجمال وإعجاز في ما حكاه القرآن المجيد عن الآمرين بالقسط، كُمّل أتباع الأنبياء عليهم السلام، في قول الله تعالى: “وكأين من نبيء قتل معه ربّيّون كثير، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما اَستكانوا والله يحب الصابرين، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت اَقدامنا واَنصرنا على القوم الكافرين. فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الاَخرة، والله يحب المحسنين” [سورة اَل عمران، الآيات: 146-148].
فهم رغم جسيم تضحياتهم، وبذلهم المهج، لم يشهدوا جليل أعمالهم، وحقروا وجودها برؤية ذنوبهم، واستذكار ما عساه أن يكون قد بدر منهم من إسراف.
والله المستعان
الأمين العام
للرابطة المحمدية للعلماء
أرسل تعليق