Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

صفة القادة

      قال الله تقدست أسماؤه: “قُلْ اِنِّي أُمِرْتُ أَنَ اَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لِأَنْ اَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ اِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ” [الزمر، 14].

      هذه الآيات تقرير لمبدأ عظيم وقيمة أساسية من قيم الدين وأصوله، وهي أن الناس سواسية في ميزان العمل وما يستتبعه من جزاء؛ إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وأن الباري جلت حكمته لا يميز بين نبي أو ولي أو أي إنسان في مجال الطاعة والمعصية. أو بعبارة أهل العصر: “لا أحد فوق القانون”، ولاسيما القانون المتعلق بالعمل سواء كان طاعة أم معصية وما يترتب عليه. وقبيل هذه الآيات وجه الخطاب إلى هذه الأمة بقوله تعالى: “قُلْ يَا عِبَادِ الَذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ”، يعني لا تكتفوا بالإيمان؛ فإن الإيمان يستتبع العمل، ويستتبع الصدق في الالتزام بأمر الله تعالى والاستقامة على منهجه؛ وذلكم هو مقام التقوى أن تنتهوا عما نهاكم عنه، وأن تطيعوه  فيما أمركم به، لا أن يقول أحدكم إن الإيمان بالقلب؛ لأن الإيمان قيمته ومصداقه العمل، فإذا لم يعمل الإنسان بمقتضى إيمانه، فكيف يستدل عليه؟ ثم قال لهم تأكيدا لهذا القانون: “لِلذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ”، بمعنى لا عذر لأحد في ترك الإحسان في العمل والتزام الأحسن، وإذا ضاقت بك الأرض بما رحبت فلم تستطع أن تحسن، فعليك أن تنتقل إلى أرض أخرى؛ لأن الأرض كلها مسجد، “وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا”، والطاعة لا تختص بأرض دون أرض كما في موطأ الإمام مالك أن أبا الدرداء رضي الله عنه كتب إلى أخيه سلمان أن هلم إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه قائلا: “إن الأرض لا تقدس أحدا، إنما يقدس الإنسان عمله”، “إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ”، يعني عليكم أن تصبروا على طاعة الله تعالى وما تلاقونه في طريق الطاعة والعمل الصالح من مكاره وضغوط، وأن تجاهدوا أنفسكم على السير في هذا الطريق مهما كانت الصعوبات والشدائد ومهما كانت التضحيات؛ لأن النتيجة النهائية المرجوة تستحق أن يتحمل المؤمن لأجلها كل شيء “ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة”، “قُلْ اِنِّي أُمِرْتُ أَنَ اَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لِأَنْ اَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ، قُلْ اِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ..” ها هنا ينتقل الخطاب القرآني من العام إلى الخاص؛ من عموم الأمة إلى نبي الأمة الذي أرسل للناس جميعا، وهو حبيب الله، وسيد الخلق، وأتقى الناس لله وأخشاهم له، وشفيع الورى في عرصات الموقف، ومع ذلك يتوجه إليه الخطاب الإلهي بهذا البيان وبهذا الوضوح قائلا له أنت مأمور أن تعبدني على سبيل الإخلاص، ومأمور أن تكون أول المسلمين، فليس معنى أن يكون الشخص في مقام عال أن يأمر الناس بأشياء لا يأتيها، أو أن يخالفهم إلى ما يدعوهم إليه، بل الإنسان عندما يكون نبيا أو عالما أو إماما أو قاضيا أو قائدا متبوعا تتضاعف مسؤوليته أمام الله، ويزداد تكليفه على تكليف الآخرين؛ لأنه يمثل القدوة والأسوة في نظر الناس. ولذلك حذروا من زلة العالم وشبهوها بانكسار السفينة؛ لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير.

      كما روي عن عمر رضي الله عنه: “ثلاث يهدمن الدين: زلة العالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون”. وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: “كيف أنتم عند ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم. فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، وأما مجادلة منافق بالقرآن فإن للقرآن منارا كمنار الطريق، فما عرفتم منه فخذوه، وما لم تعرفوه فكِـلوه إلى الله، وأما دنيا تقطع أعناقكم فانظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم”.

      ولذلك ندد القرآن بقوم كانوا يستغلون الدين لأغراضهم وشهواتهم، ويتظاهرون مع ذلك بالقداسة فقال: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الاَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ” [التوبة، 34]، يعني يا أهل الإيمان، يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم احذروا أن تكونوا مثلهم “قُلْ اِنِّي أُمِرْتُ أَنَ اَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ”، يعني أمرني الباري جل وعلا أن أعبده على وجه الإخلاص أي عندما أدعو الناس إلى الإسلام، فلا بد أن ألتزم به، ولابد أن أطبقه في خاصة نفسي وأهلي ومن يليني؛ لأكون أول مسلم ومنقاد لما آمركم به، وثمرة هذا التوجيه أنه مهما دعوت الناس إلى شيء عليك أن تكون أول من يأخذ به في نفسه ويعمل به، “قُلْ اِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ” النبوة مقام عظيم، ومنصب منزه. النبي منزه معصوم لم يعص ربه قط، وهذا جزء من اعتقادنا وإيماننا به؛ ولكن لو حصل منه ذلك جدلا؛ فإن الله جل وعلا سيحاسبه كما يحاسب أي إنسان، فلا أحد فوق قانون الشرع؛ والأنبياء والأولياء والعلماء والصفوة هم أولى الناس باحترامه وتوقيره وتعظيم حدوده. “قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي” لا أعبد غيره، ولا أشرك به سواه، فاعبدوا ما شئتم من دونه… اعبدوا الأهواء، أو اعبدوا الأصنام الخفية والظاهرة؛ اعبدوا المال أو الشهوة او السلطة أو القوة فلن أعبد سوى الله، “قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ” الخاسر هو الذي يخسر صفقة تجارية، أو يخسر منصبا سياسيا أو اجتماعيا أو يخسر امتيازا اقتصاديا أو يخسر مبلغا من المال، لكن من هو الخاسر الذي تمثل خسارته أعظم خسارة؟ قال الله تعالى: “الَذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” ترى ما معنى أن يخسر الإنسان نفسه؟ الخاسر الحقيقي يقول القرآن هو من خسر نفسه أي إن من يخسر ماله أو منصبه ليس خاسرا على الحقيقة؛ الخاسر الحقيقي هو الذي يضيع نفسه ويخطئ العنوان الصحيح الدال عليها بحيث يغترب عنها وينساها وينسى مصيرها بين يدي الله تعالى. ولقد جاء في مواطن كثيرة من القرآن الكريم لفظ “الخسران” و “خسران النفس”، وظاهره المعنى المعروف بالاستعمال في البيع والشراء “الخسارة التجارية”، ولكن هذا المعنى لا يسلم من الاستشكال السابق وهو: كيف يتصور أن يخسر الإنسان نفسه التي هي هو؟ وأحسب أن مفتاح البحث في هذا الموضوع ومنطلق تمحيصه هو التمييز بين النفس الحقيقية والنفس الزائفة، فالإنسان معرض للوهم والخلط في التمييز بين جانبه الروحي المعنوي؛ وهو الجوهر النفيس من إنسانيته، وجانبه الجسدي، فكلما قل اهتمام الإنسان بالجانب الأول إنكارا وإهمالا، أو عجز عن تمييزه واعتباره ومراعاته وقع في خسران النفس ونسيانها، فأول معاني الخسران الذي يتحدث عنه القرآن أن لا يعرف الإنسان نفسه، وهذا المعنى له آثار وتبعات في الدنيا والآخرة. وهناك تلازم بين معرفة النفس ومعرفة الله تعالى؛ بمعنى لا يمكنك أن تعرف الله تعالى دون معرفة النفس، ولا يمكنك أن تعرف النفس دون معرفة الله تعالى، ولذلك قال جل شأنه: “وَلا تَكُونُوا كَالَذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ” [الحشر، 19].

أرسل تعليق