دعاء يوسف عليه السلام.. (1)
قال تعالى: “وراودته التي هو قي بيتها عن نفسه وغلقت الاَبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون” [يوسف، 23].
سيقت الآية في مقام الابتلاءات التي عاشها يوسف عليه السلام فقصها علينا القرآن المجيد. لقد راودت امرأة العزيز[1]، يوسف عن نفسه بغرض أن تخرجه عن عفافه، فالنفس هنا كناية كما بين ابن عطية عن غرض الواقعة؛ لأنها تريد تمكينها منه لما تريد. فكأنها تراوده عن أن يسلم إليها إرادته وحكمه في نفسه[2]. وقد اتخذت لهذا الغرض إجراء إغلاق الأبواب إغلاقا محكما، ثم عبرت عن غرضها فطلبت منه قائلة: “هيت لك“. وهيت اسم فعل أمر بمعنى بادر[3]. واللام في “لك” لزيادة بيان المقصود من الخطاب، وأصله هيتك. لم يستجب يوسف عليه السلام لطلب امرأة العزيز فاستعاذ بالله وعلل اعتراضه على طلبها.
أما الاستعاذة فواضحة في قوله تعالى: من هذا الطلب قائلا “معاذ الله“. ومعاذ مصدر ميمي اسم للعوذ، وهو الجأ إلى مكان حصين. وانتصب هذا المصدر على المفعولية المطلقة نائبا عن فعله المحذوف. والتقدير: أعوذ بالله معاذا[4]، أي التجأ وأعتصم بالله مما تحاولين.
وقد علل يوسف عليه السلام عفته وإعراضه بأمرين نص عليهما قوله تعالى: “إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون” [يوسف، 23].
الأمر الأول: الإحسان لا يقابله إلا الإحسان لقوله تعالى: “هل جزاء الاِحسان إلا الاِحسان” [الرحمن، 59]. لقد علل امتناعه بعدم مقابلة الإحسان بنقيضه، وهذا واضح في قوله: “إنه ربي أحسن مثواي” [يوسف، 23]. وكما يحتمل أن يكون الضمير في قوله: “إنه” راجعا إلى اسم الجلالة يحتمل أن يكون عائدا إلى زوجها. لقد أحسن الله تعالى إليه فنجاه من كيد إخوته فهيأ له أسباب اللقاء بالعزيز. كما أحسن هذا الأخير إليه عندما طلب من امرأته أن تتفقده بالإحسان وتتعهده بحسن الرعاية كما في قوله تعالى: “وقال الذي اشتراه من مصر لاِمرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا” [يوسف، 21].
والأمر الثاني: عدم فلاح الظالمين. وهكذا علل يوسف عليه السلام امتناعه عن الاستجابة لطلب امرأة العزيز بالعدل؛ لأن الاستجابة لطلبها بمثابة الظلم. قال الإمام بن عاشور: “فيها ظلم كليهما نفسه بارتكاب معصية مما اتفقت الأديان على أنها كبيرة، وظلم سيده الذي آمنه على بيته وآمنها على نفسها إذ اتخذها زوجا وأحصنها“[5].
يتضح مما سبق أن يوسف عليه السلام صدرت منه ثلاثة أشياء:
أحدها: دعاء الاستعاذة بالله لقوله: “معاذ الله“؛
والثاني: التعليل بقوله تعالى: “إنه ربي أحسن مثواي“؛
والثالث: التعليل بقوله تعالى: “إنه لا يفلح الظالمون“..
فما وجه تعلق بعض الجواب ببعض؟
أجاب الرازي عن ذلك في قوله: “هذا الترتيب في غاية الحسن، وذلك لأن الانقياد لأمر الله تعالى وتكلفه أهم الأشياء لكثرة إنعامه وألطافه. فقوله: “معاذ الله” إشارة إلى أن حق الله يتعالى يمنع عن هذا العمل، وأيضا حقوق الخلق واجبة الرعاية، فلما كان هذا الرجل قد أنعم في حقي يقبح مقابلة إنعامه وإحسانه بالإساءة، وأيضا صون النفس عن الضرر واجب، وهذه اللذة لذة قليلة يتبعها خزي في الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة، واللذة القليلة إذا لزمها ضرر شديد، فالعقل يقتضي تركها والاحتراز عنها فقوله تعالى: “إنه لا يفلح الظالمون” إشارة إليه، فثبت أن هذه الجوابات الثلاثة مرتبة على أحسن وجوه الترتيب[6].
————————————————–
1. أي زوجة والي أو حاكم مصر.
2. ابن عطية، المحرر الوجيز. ج، 3: ص: 232.
3. قيل أصل الكلمة من اللغة الحورانية، وهي نبطية. وقيل هي من اللغة العبرانية… وقرأ ابن كثير بفتح الهاء وسكون التحتية وضم الفوقية. وقرأ الباقون بفتح الهاء وسكون التحتية، وضم التاء الفوقية. مفاتيح الغيب للرازي، ج: 18 ص: 92.
4. قال الإمام بن عاشور رحمه الله: “لما حذف الفعل جعل الاسم المجرور بباء التعدية متصلا بالمصدر بطريق الإضافة فقيل معاذ الله، كما قالوا سبحان الله، عوضا عن أسبح الله”. تفسير التحرير والتنوير، ج: 12، ص: 250.
5. انب عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج: 12 ص: 252.
6. الراوي، مفاتيح الغيب، ج: 18، ص: 94.
أرسل تعليق