دعاء يعقوب عليه السلام
قال تعالى: “وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون” [يوسف، 18].
سيق طلب يعقوب عليه السلام العون من الله تعالى في مقام مقالي يقص الله تعالى من خلاله ما حصل لابنه يوسف عليه السلام مع إخوته. فقد دبروا حيلة للتخلص منه واستدلوا على صدق دعواهم بما اختلقوه من أحداث وبما اصطنعوه من وقائع. فالحيلة التي عقدوا العزم على القيام بها يحكيها قوله تعالى: “فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابات الجب” [يوسف، 15]. كما يحكيها قوله: “وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعلمون” [يوسف، 19]. أما ما تخيلوه أو اصطنعوه من وقائع فقد ورد في قوله تعالى: “وجاءوا أباهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذيب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين” [يوسف، 16-17].
لقد اختار يعقوب عليه السلام في هذا المقام الشديد أمرين: أولهما الصبر الجميل، والثاني الاستعانة بالله تعالى على ما حكاه أولاده عن أخيهم يوسف عليه السلام.
أولا الصبر الجميل: اختار الصبر الجميل، أي الصبر الكامل الذي وصفه الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام في قوله: “إنما الصبر عند الصدمة الأولى“. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه و سلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: “اتقي الله واصبري“، قالت: “إليك عني فإنك لم نصب بمصيبتي، ولم تعرفه” فقيل لها: “إنه النبي صلى الله عليه و سلم، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك”، فقال : ” إنما الصبر عند الصدمة الأولى“[1]. والحق أن هذه درجة من الصبر التي لا أثر فيه للجزع ولا مكان فيها للفزع ولا علاقة لها بالشكوى، كما لا يقترن هذا النوع من الصبر بالاعتراض على قضاء الله وقدره. التجلد بهذا النوع من الصبر بمثابة تفويض الأمر لله تعالى فيا يقضيه ويقدره[2].
ثانيا: طلب العون من الله تعالى: كما اختار يعقوب عليه السلام طلب العون من الله تعالى في قوله: “والله المستعان على ما تصفون” [يوسف، 18]. والجدير بالذكر في هذا المضمار المقصود من طلب العون من الله تعالى محتمل لمعنيين:
إما أن يكون المعنى المقصود هو طلب العون من الله على تحمل الصبر على ما حصل ليوسف عليه السلام مع إخوته. أي أنه استعان بالله تعالى حتى يكون صبره صبرا جميلا، ولا يكون الصبر صبرا جميلا إلا بإعانة الله تعالى. فلو لم تكن هذه الإعانة لما استطاع أن يتجرد عن الدواعي النفسانية التي تدعوه إلى الجزع و الفزع..
وإما أن يكون المعنى المقصود من طلب العون من الله تعالى هو طلب العون من الله ليوسف فيسلم من كيد إخوته له.
إننا إزاء اختيار للصبر ولطلب العون الله تعالى. وما يفسر هذا الاختيار هو عدم اقتناع يعقوب عليه السلام بما حكاه إخوة يوسف. فحكايتهم مجرد تبرير يتطلع أصحابه إلى تسويغ ما حصل له. نعم نقول التبرير الذي يفتقر إلى الصدق لأن القرآن المجيد عبر عما أصاب يوسف من خلال لسان يعقوب بـ “على ما تصفون“. ولا شك أن التعبير عن ذلك انطلاقا من بهذه العبارة القرآنية هو، كما بين الإمام بن عاشور رحمه الله، في غاية البلاغة؛ لأن يعقوب كان واثقا بأنهم كاذبون في الصفة، وكان أيضا واثقا بأنهم ألحقوا بيوسف عليه السلام ضرا[3].
———————————————–
1. رواه البخاري وسلم، ينظر صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور، رقم الحديث: 1283.
2. وقد علل الرازي ذلك فقال: “لم يرد “أي يعقوب عليه السلام” هتك أستار سرائر أولاده وما رضي بإلقائهم في ألسنة الناس، وذلك لأن أحد الولدين إذا ظلم الآخر وقع الأب في العذاب الشديد؛ لأنه إن لم ينتقم يحترق قلبه على الولد المظلوم، وإن انتقم فإنه يحترق قلبه على الولد الذي ينتقم منه، فلما وقع يعقوب عليه السلام في هذه البلية رأى أن الأصوب الصبر والسكوت وتفوض الأمر لله تعالى بالكلية”. مفاتيح الغيب ج: 18، ص: 84.
3. ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج: 12، ص: 240.
أرسل تعليق