Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

حمو بن عبد الوهاب الغساني

لا مراء في كون الرحلات المغربية تعتبر من أمتع وأنفع ما دون في عالم الرحلات على الإطلاق. فهي بمثابة بيانات عمرانية وحضارية تحوي إفادات متنوعة حول المسالك والممالك والعادات والأعراف والخبرات الإنسانية بشكل عام. لكن ثمة نوع من الرحلات ارتبط في تاريخ المغرب بمهمات رسمية دبلوماسية ذات طابع علمي أو سياسي أو ثقافي.. وقد اشتهر هذا النوع باسم الرحلات السفارية التي تعتبر رحلات تؤرخ بمعنى من المعاني للحظة “اكتشاف” المغاربة لحضارة الغرب..

وقد ارتأيت في هذا العدد 153 من جريدة ميثاق الرابطة الغراء أن أعرف برجل فاضل قام برحلة سفارية إلى اسبانيا من أجل التوسط لدى حكامها لافتكاك أسرى مغاربة محتجزين لدى السلطات الإسبانية، يتعلق الأمر بأبي عبد الله حمو الغساني، صاحب “رحلة الوزير في افتكاك الأسير”..

حمو بن عبد الوهاب الغساني

هو أبو عبد الله محمد المدعو حمو بن عبد الوهاب الوزير الغساني الأندلسي الأصل. أديب مولع بالكتب النفيسة، وكاتب السلطان مولاي إسماعيل. اشتغل بهذا المنصب سنوات عديدة في مكناس. شارك الوزير الغساني في سفارة بعث بها مولاي إسماعيل إلى الجزائر عام (1103هـ / 1692م)، بعقد هدنة مع أتراك الجزائر على إثر الهزيمة التي منى بها المغاربة في المشارع على وادي ملوية. وكان حمو الغساني قد توجه قبل ذلك من قبل المولى إسماعيل في سفارة أخرى إلى إسبانيا، أواخر سنة (1101هـ / 1690م)، “للتفاوض حول افتداء الأسرى المسلمين المعتقلين هناك، ولمحاولة استرجاع الكتب العربية التي بقيت في المساجد الأندلسية القديمة[1]. ولما رجع إلى المغرب كتب “رحلة الوزير في افتكاك الأسير“.

ترجم لسيدي حمو الغساني كل من  ليفي بروفنسال، في مؤرخو شرفاء، ص: 284- 286، ذكر بعض مراجع ترجمته، وعبد الرحمن ابن زيدان، في إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس، 4: 61، ومحمد الفاسي في الأدب المغربي، ص: 535، وعبد السلام بن سودة في دليل مؤرخ المغرب الأقصى، ومحمد الأخضر في “الحياة الأدبية على عهد الدولة العلوية، دار الرشاد الحديثة 1977)”.

قال ليفي بروفنسال بشأن رحلة الوزير في افتكاك الأسير: “عرفت هذه الرحلة منذ أن نشر صوفير سنة (1884م) ترجمة جزء منها. ويقرؤها الإنسان بشغف حيث يتصور مرتاح البال الإقامات المتوالية للكاتب المغربي بمحضر الشخصيات السامية في البلاط الأسباني، وهم يقومون بكل ما في وسعهم ليتركوا في نفس الضيف أحسن انطباع عن لباقتهم ومجاملتهم، وليبينوا له تفاصيل كل ما من شأنه أن يثير فضوله”[2] وكان ليفي بروفنصال وهو يكتب ذلك سنة (1922م)، يملك نسخة من هذه الرحلة أخذت عن مخطوطة سلا[3]. ثم طبعت رحلة الوزير لأول مرة في طنجة سنة (1940م) بعناية الفريد البستاني، تحمل رقم واحد من سلسلة مطبوعات معهد الجنرال فرانكو. وقد نبه الناشر إلى هفوات تاريخية وقعت لصاحب الرحلة لدى تعليقه وشرحه العقائد والقضايا الدينية المسيحية، حيث يظن أن بعضها ربما كان من تلاعب النساخ لما فيها من تحريف وتصحيف[4].

لكنه مع ذلك يشير إلى أهمية هذا الكتاب الذي كان يعتبر آنذاك أكبر أثر في هذا الصنف من الرحلات “يتقدم إلينا بمجموعة تأريخية كلها عبر، تاركا لنا ملاحظات دقيقة ودروسا قيمة في حياة الأمم الاجتماعية والتأريخية، ولم يهمل الاقتصادية منها ، وقد رسم لنا بريشته الساذجة البريئة الطبيعية لوحة رمزية لها تشابهاتها الغامضة، وتموجاتها الساحرة، وقيمتها الفكرية، في عالم البحث والتنقيب والتفكير.. “[5].

يقول محمد الأخضر في كتابه “الحركة الأدبية بالمغرب على عهد الدولة العلوية”، دار الرشاد الحديثة، 1977): “إن الانطباع العام الذي يخرج به القارئ لهذه الرحلة هو الدقة في الملاحظة والاهتمام بتصوير كل ما أثار الإعجاب أو الفضول بأكثر ما يمكن من الأمانة والصدق. وإذا كان الوزير يستعمل عبارات عامية دارجة، مثل الدشرة والمخزن، والبراوات – والرسائل، والمكانات – الساعات فما ذلك إلا ليفهم القراء مراده دون التباس، لا عن عجز وضعف في الأسلوب. نعم نجد عنه سقطات مثل (يزعمون النصارى)”[6]، عير أن هذا راجع ولا شك إلى تحريف النساخ.

كذلك كان لسيدي حمو الغساني أسلوب سهل واضح “يباين -على حد تعبير محمد  الفاسي- التفصح المعتاد عند كتاب المخزن”[7].

يرى عبد السلام بن سودة في دليل مؤرخ المغرب الأقصى[8] أن للوزير الغساني أيضا رحلة حجازية مخطوطة في مجلد، غير أننا لا نعرف شيئا دقيقا بشأنها.

فلنستمع لصاحبنا حمو الوزير الغساني وهو يصف حفلة رقص في مدينة ليناريس: “وهي كما قدمنا، مدينة متوسطة أثرها أثر الحضارة، وأهلها أهل بشاشة. ومن بشاشتهم وعوائد كرمهم أن اجتمعوا كلهم نساء ورجالا وأتوا بآلة الطرب. وعادتهم أن يرقص منهم رجل وامرأة. فحين يقوم الرجل يريد الرقص، يتخير من النساء صغيرة أو كبيرة، ويزيل لها شمريره الذي على رأسه ويبايع لها. فلا يمكنها التخلف أصلا.. “[8].

وحول الاستقبال الذي حظي به الوزير الغساني في القصر الملكي بإسبانيا يقول: “ومن الغد، ورد علينا الميوردوم في وقت معلوم، بعد أن تهيأ عظيمه للملاقاة وقصد بنا إليه. فوجدنا أهل المدينة اجتمعوا كلهم نساء ورجالا فلم نصل دار الطاغية إلا بعد جهد وعناء، لكثرة ما اجتمع من الخلق. فحين قربنا من الباب، لقينا الوكيل الميوردوم، ومعه من معه من الأعيان والشلظاظ. فسلم ورحب ودخل بنا الدار، ويسمونها الباصيو ومعناه المشور. فجعلنا نمر بالجماعات من الأعيان والأكابر، فيسلمون ويقف كل عند حده، إلى أن دخلنا قبة كبيرة ببابها كاتب الديوان الكبير، وهو رجل كبير السن بلغ منه الكبر إلى أن انحنى. فلقينا أحسن الملاقاة، ومعه جماعة من الدوكس والكونديس. ودخل بنا قبة أخرى لها باب ومن هذه القبة وجدنا الطاغية واقفا على قدميه، وقد جعل في عنقه سنسلة من ذهب، وتلك هي عوائد ملوك العجم، إذ هي عندهم بمثابة التاج. عن يمينه طبلة من ذهب مرصعة، أعدها وصنعها أيام مقامنا بعد وصولنا، ليجعل عليها البراءة السلطانية، إجلالا وتعظيما لمراسلها أعزه الله تعالى.. [9].

يعلق محمد الأخضر في كتابه سابق الذكر على هذا الوصف الرائع بقوله: هكذا نرى الوزير الغساني يعني بإيراد جميع التفاصيل والجزئيات مستعملا الكلمات المعبرة التي لا تند عن فهم القارئ، وذلك ما يضفي على الرحلات من هذا الصنف مسحة أدبية، وطابعا عاما، بل عالميا ولما كان الوزير الغساني أول من دون رحلة عن سفره إلى إسبانيا فقد حذا حذوه كثير من الدبلوماسيين المغاربة الذين توجهوا إلى البلاد الأجنبية في ممهات مماثلة.

لا شك أن “رحلة الوزير في افتكاك الأسير” تمدنا بمعلومات ثمينة جدا عن إسبانيا في القرن السابع عشر، سواء عن سكان المدن أو سكان البوادي، من أعلى الطبقات الاجتماعية إلى أبسطها، وقد جاءت رحلة حمو الغساني مليئة بالفوائد التاريخية والعمرانية والحضارية، وكذلك بالطرائف التي تجعل من هذه الرحلة الثمينة من الرحلات المؤسسة في بابها.. وهي كذلك تأريخ لجانب من جوانب العلاقات الدبلوماسية والخارجية على عهد السلطان المولى إسماعيل.. ولا غرابة أن تحذو حذوها رحلات أخرى من الجنس نفسه، مثل رحلة ابن عثمان المكناسي، ورحلة محمد الصفار، ورحلة الكردودي وغيرهم، رحمهم الله أجمعين..

توفي حمو الغساني بمحروسة فاس  سنة  1119هـ/ 1707-1708م، رحمه الله وجازاه عن المغرب خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه.

———————————-

1. ليفي بروفنصال، شرفاء، ص: 285.

2. المصدر السابق في نفس الصفحة.

3. نفس المصدر ونفس الصفحة.

4. الفريد البستاني، مقدمة رحلة الوزير، ص: 1-2.

5. المصدر السابق، ص: 8.

6. رحلة الوزير، ص: 8 و45 و65 و99 والأمثلة على ذلك متعددة.

7. الأدب المغربي، ص: 535.

8. رحلة الوزير، ص: 30.

9. رحلة الوزير، ص: 42.

أرسل تعليق