النبوة في الكلام الأشعري: في المداخل والمقدمات
النبوة والنبي لفظان مستمدان في اللغة من النبأ، يقال نبأ وأنبأ: أخبر، والنبي المخبر عن الله تعالى. والنبأ: خبر ذو فائدة يستمد ويستفاد به علم أو غلبة ظن.
فالإخبار والفائدة مما يتضمنه أصل الاستعمال للفظ (نبأ)، وفي الذكر الحكيم: “قل هو نبأ عظيم اَنتم عنه معرضون” [سورة ص، 68-67]، لو قال عز من قائل: “عم يتساءلون عن النبأ العظيم” [سورة النبأ، الآيتان: 2-1].
ومادة: ن، ب، أ بالهمز في الأول والآخر وبتضعيف العين نبَّأ، وفي التنزيل العزيز “قالت من اَنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير” [سورة التحريم، الآية: 3]. وهو بالتضعيف أبلغ؛ لأن فيه تنبيها على تحقق الخبر وكونه من لدن الحق سبحانه وتعالى.
ويقال نَبَأَ نبْأً ونُبُوءاً: ارتفع[1]، والنبي الطريق الواضح والمكان المرتفع[2].
فتحصل من النظر في المادة اللغوية أن النبي إما أن يكون مأخوذا من النبأ الذي هو الخبر، فيكون للدلالة على إخبار النبي عن ربه. أو أن يكون مأخوذا من النبوة بمعنى المكان المرتفع من الأرض، فيكون للدلالة على سمو ورفعة ومنزلة النبي “يقال نبأ الشيء إذا ارتفع، فالمعنى على هذا أن النبي مرتفع عن طور البشر باختصاصه بالوحي وخطاب الله تعالى”[3]. أو من الطريق؛ لأنه وسيلة إلى الله تعالى، يقول التفتازاني -تحت الفصل الخاص بالنبوة تحديدا لمفهوم النبي-: “وهو كون الإنسان مبعوثا من الحق إلى الخلق؛ فإن كان النبي مأخوذا من النباوة وهو الارتفاع لعلو شأنه واشتهار مكانه، أو من النبي بمعنى الطريق لكونه وسيلة إلى الحق تعالى وإن كان من النبأ وهو الخبر لإنبائه عن الله تعالى”[4].
فالنبي إنسان بعثه الله لتبليغ ما أوحي إليه، وكذا الرسول وقد يخص بمن خص بشريعة وكتاب[5].
إلا أن الاشتغال بالنظر في الفرق بين مفهومي النبي والرسول هو اشتغال بما يندرج تحت الخلاف في مجرد التسمية من غير كبير فائدة؛ لأن المقصود الأهم هو الإيمان بجميع الأنبياء والرسل تفصيلا فيما علمناه وإجمالا فيما لم نعلمه[6].
وقد اشتغل الأشاعرة في مبحث النبوات على تبيين وتقريب الأحكام العقدية المتعلقة بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، بتبيين ما يجب وما يجوز في حقهم، وما يستحيل عليهم، صلوات الله وسلامه عليهم، وذلك بمنهج كلي قطعي حاكم على الجزئيات الظنية الموهمة للتنقيص، وبمسلك برهاني رباني يجلِّي قيم التوقير والتعظيم والإجلال والإكرام في حق الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
فنبه العلماء الأشاعرة على خطر آفة التنقيص في حق الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، يقول ابن خمير السبتي: “فترى بعض الجهال يسمع تنقيص بعض الأنبياء فلا يكترث، ويحتمل في جانبه ما لا يحتمل في جانب الغير، وهذا دليل على جهله بالنبوة”[7].
كما حذروا من الإقبال على الأسباب المورِّثة للتنقيص وما يحوم حول حماه، فنصحوا قائلين: “الله الله أيها المقلد أن تنظر في كتب الأباطيل في قصص الأنبياء ممن لا يكثرت بالدين، ولا يحكم بتنزيه النبيين، وجعلها ذريعة لإهلاك المقلدين، وكذلك بعض المفسرين لظاهر القرآن من غير بناء على أصل صحيح يسطرون في قصص الأنبياء –عليهم السلام- قواصم تهوي بضعفاء المقلدين إلى ضحضاح سحيق”[8].
وفي مقابل ذلك بينوا ووضحوا وقربوا مسالك وطرق ما يورِّث التعظيم في حقهم عليهم الصلاة والسلام، بتجلية قدرهم عند الحق سبحانه وتعالى، يقول القاضي عياض: “لا خفاء على من مارس شيئا من العلم، أو خص لمحة من الفهم بتعظيم الله قدر نبينا صلى الله عليه وسلم وخصوصه إياه بفضائل ومحاسن ومناقب لا تنضبط لزمام وتنويهه من عظيم قدره بما تكلُّ عنه الألسنة والأقلام”[9]. بل إن مناقبه الشريفة لا تحصى وما خص به من الأخلاق الكريمة عدد الحصى، كيف لا وقد قال الله تعالى له: “وإنك لعلى خلق عظيم” [سورة القلم، الآية: 4]، وما عظمه العظيم فهو عظيم، وكيف لا يكون ذلك وقد بعثه الله تعالى متمِّما لمكارم أخلاق الأولين وقد خصه بجميع صفات النبيين[10].
فكان مجلسه أوقر المجالس، لا يسمع فيه صخب الأصوات ولا اختلاط اللغات، ليس فيه مراء ولا جدال، ولا للهجو والفحش فيه مجال، لا تُؤْبَنُ في مجلسه الحُرَم، ولا يُغَضُّ فيه من الأقدار والقيم، بل كان مجلس علم وحِلم وحكم وفهم، أصحابه يعظمون في مجلسهم معه حرمات الله، ويتعلمون منه أحكام الله، فتارة يُعْلمهم بأمور الآخرة حتى كأنهم ينظرون إليها، وأخرى يعلِّمهم أحكام شريعته كي يعملوا بها[11].
وصدق البوصيري إذ يقول:
دع ما ادعتــه النصــارى في نبيهــــــم واحكــم بمــا شئت مدحا فيه واحتكم
وانسب إلى ذاتــه ما شئت من شرف وانسب إلى قدره ما شئت من عظــم
فــــإن فضــل رســول الله ليــس لــــــه حـــد فيعــــرب عنــــه نـاطــق بفــــــم
—————————-
1. لسان العرب لابن منظور، مادة: ن، ب، أ.
2. القاموس المحيط للفيروز آبادي، مادة نبأ.
3. النشر الطيب على شرح الشيخ الطيب لإدريس بن أحمد الوزاني، ج: 2، ص: 133.
4. شرح المقاصد للإمام مسعود بن عمر التفتازاني، تحقيق: الدكتور عبد الرحمان عميرة، ج: 5، ص: 5.
5. المقاصد للتفتازاني، ج: 5، ص: 5.
6. النشر الطيب، ج: 2، ص: 133.
7. مقدمات المراشد إلى علم العقائد، لابن خمير السبتي، تحقيق: جمال علال البختي، ص: 316-317.
8. مقدمات المراشد، ص: 317.
9. الشفا في التعريف بحقوق المصطفى، ص21.
10. إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأبي العباس ضياء الدين الأنصاري الأندلسي القرطبي، تحقيق الدكتور أحمد آيت بلعيد دار الكتب العلمية، ص: 100.
11. نفسه، ص: 90.
أرسل تعليق