المُنَاسَبَات بين السُّوَرِ والآيَات (4/2)
المناسبة لغة
النون والسين والباء: كلمة واحدة، قياسها اتصال شيء بشيء، والمناسبة في اللغة مأخوذة من التناسب وهو: التقارب والتناسق والمشاكلة والترابط والتعلّق والانسجام، يُقال: فلان يناسب فلاناً أي؛ يقرب منه ويشاكله، ومنه: النسيب وهو القريب المتصل كالأخوين وابن العم، ونحوه، ومنه: المناسبة في العلة من باب القياس، أي الوصف المقارب للحكم؛ لأنه إذا حصلت مقاربته له، ظُنَّ عند وجود ذلك الوصف وجود الحكم، ولهذا قيل: المناسبة أمر معقول إذا عُرِضَ على العقول تلقته بالقبول[1]. وقد ورد هذا اللفظ في القرآن العظيم بصِيَغٍ متعددة، في قوله تعالى: “وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا” [سورة الصافات، جزء من الآية: 158]. وقوله: “وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا” [سورة الفرقان، جزء من الآية: 54]. وقوله: “فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءلُونَ” [سورة المؤمنون، الآية: 101].
المناسبة اصطلاحاً
أ- علم تُعرَفُ منه علل ترتيب أجزاء القرآن[2]. وقولُه: “أجزاء القرآن” شامل للآية مع الآية، والحكم مع الحكم، والسورة مع السورة، والقصة مع القصة، وكل جزء من القرآن مع ما قارنه؛
ب- أو هو: تَلَمُّسُ أوجه الترابط والانسجام في القرآن العظيم؛
ج- أو هو: بيان وجه الارتباط بين الجملة والجملة في الآية الواحدة، أو بين الآية والآية في الآيات المتعدِّدة، أو بين السورة والسورة[3]؛
د- أو هو: علم يُعرف منه ارتباط آي القرآن وسوره فيما بينها، حتى يَتَّحِدَ أول كل منها بآخره، في نسق معجز مؤلَّف من آيات وسور آخذٍ بعضُها بأعناق بعض، في بناء محكم مترابط؛
ه- أو هو: علم عقليٌّ بَحْت، يَعتمِدُ على فهمٍ كامل للنسق القرآني، وتدبُّرٍ عميق للآيات وسور القرآن الكريم؛
و- أو هو: علم يُؤَكِّدُ على الترابط والتلاحم الوثيق بين سور القرآن الكريم وآياته، من بدئه إلى نهايته؛
ز- أو هو: علم النِّظَام، وهذا المصطلح أَطْلقَه عليه حميد الدين عبد الحميد الأنصاري الفراهي، حين قال: “ومرادنا بالنظام أن تكون السورة وحدة متكاملة، ثم تكون ذات مناسبة بالسورة السابقة واللاحقة، وعلى هذا الأصل، ترى القرآن كله كلاماً واحداً، ذا مناسبة وترتيب في أجزائه من الأول إلى الآخر”[4].
قال عنه الفخر الرازي: “أكثر لطائف القرآن مُودَعَةٌ في الترتيبات والروابط”.
وقال عنه السيوطي في معترك الأقران: “علم المناسبة علم شريف قَلَّ اعتناء المفسِّرين به لِدِقَّتِه”.
وقال عنه البقاعي في نظم الدرر: “وهو سِرُّ البلاغة؛ لأدائه إلى تحقيق مطابقة المعاني لما اقتضاه من الحال، وتتوقَّف الإجازة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها، ويفيد ذلك في معرفة المقصود من جميع جُمَلِها، فلذلك كان هذا العلم في غاية النَّفَاسَة، وكانت نسبتُه من علم التفسير كنسبة علم البيان من النحو”.
فالبِقاعِيُّ يجعل العِرفان بمقصود السورة أساسَ الإجادةِ في فقه تناسب القرآن الكريم من حيث العِرفانُ بعلل ترتيب أجزاء البيان القرآنيّ، بدْءاً من الكلمة في الجملة وانتهاءً بالسُّورة، وفي الوقت نفسه يعود ذلك بالنفع الجليل على معرفة المقصود من جمل السورة بفقه نظمها التركيبي.
وهو بذلك منطَلِقٌ من القاعدة الكلية التي أرشده إليها شيخه “أبو الفضل المشداليّ المغربي” والتي نصَّ عليها في مفتتح تأويله سورة “الفاتحة” قائلا: “الأمر الكُلّي المفيدُ لعِرْفانِ مناسبَات الآياتِ في جميع القرآن هو أنّك تنظرُ إلى مراتبِ تلك المقدِّمات في القربِ والبعدِ من المطلوبِ وتنظرَ عند انجرار الكلام في المقدمات إلى ما يستبعثه من استشراف نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له التي تقتضي البلاغة شفاء العليل بدفع عناء الاستشرافِ إلى الوقوفِ عليْها فهذا هو الأمر الكلّيُّ المهيمن على حكم الربطِ بينَ جميعِ أجزاء القرآنِ، وإذا فعلته تبين لك إن شاء الله تعالى وجه النظم مفصلا بين كلّ آية وآية في كلّ سورة وسورة، والله الهادي”[5].
وقال العِزُّ بن عبد السلام فيه: “المناسبة علم حسن، لكن يُشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متَّحِدٍ مرتبط أوله بآخره”.
موضوعُه
هو أجزاء الشيء المطلوب علم مناسبته من حيث الوقوف على طرق الترتيب وعلله، يقول البقاعي: “وبهذا العلم يرسخ الإيمان في القلب ويتمكن من اللب؛ وذلك أنه يكشف أن للإعجاز طريقتين، إحداهما نظم كل جملة على حيالها بحسب التركيب؛
والثانية: نظمها مع تاليتها بالنظر إلى الترتيب، والأول أقرب تناولاً وأسهل ذوقاً؛ فإن كل من سمع القرآن مـن ذكـي وغـبـي يـهـتــزُّ لمعانيه وتحصل له عند سماعه روعة بنشاط مع انبساط لا تحصل عند سماع غيره، ثم إذا عـبـر الفطن من ذلك إلى تأمُّل ربط كل جملة بما تلتْه وما تلاها خفي عليه وجه ذلك، ورأى أن الجمل متباعدة الأغراض متنائية المقاصد، فظن أنها متنافرة، فحصل له من القبض والكـــرب أضعاف ما حصل له بالسماع من الهزّ والبسط، ربما شككه ذلك وزلزل إيمانه، فإذا استعان بالله وأدام الطَّرْقَ لباب الفرج بإنعام التأمل وإظهار العجز والوقوف بأنه في الذروة من إحكام الربط كما كان في الأوج من حسن المعنى، فانفتح له ذلك الباب، ولاحَتْ له من ورائه بوارق أنوار تلك الأسرار، رَقَصَ الفكر منه طرباً وشاط لعظمة ذلك جنانُه، ورسخ من غير مرية إيمانُه”.
نِسْبَته
نسبتُه من علم التفسير كنسبة علم المعاني والبيان من النحو فهو غاية العلوم[6].
ثمرتُه
الاطِّلَاع على الرتبة التي يستحقها الجزء بسبب تعلُّقِه بالكُلِّ، وارتباطه بما وراءه وما أمامه ارتباطاً كلُحمة النسب، بحيث تبدو أجزاء الكلام وقد أخذ بعضها بأعناق بعض، وتتوقَّف معرفته، وثمرته، والإجادة فيه على إدراك مقصود كل سورة في كل جملها القرآنية، ومن أجل ذلك كان هذا العلم في غاية النفاسة، يقول الشيخ أبو بكر النيسابوري: “إن إعجاز القرآن البلاغي لم يرجع إلا إلى هذه المناسبات الخفية، والقوية بين آياته وسوره، حتى كأن القرآن كله كالكلمة الواحدة ترتيباً وتماسُكاً[7].
ويقول الزمخشري في كشافه: “وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التي ورد عليها، مناد على نفسه بلسان ذلق، أنه ليس من كلام البشر، لمن عرف وأنصف من نفسه”.
وقال في موضع آخَر: “فانظر إلى بلاغة هذا الكلام، وحسن نظمه، ومكانة أضماده، ورصافة تفسيره وأخذ بعضه بحجز بعض، كأنما أفرغ إفراغا واحدا، ولأمر ما أعجز القوى، وأخرس الشقاشق”[8].
مَرْجِعُـــهُ
مرجع المناسبة سواء أكانت بين أجزاء الآية، أم بين الآيات، أم بين السور إلى رابط ما سواء أكان هذا الرابط عاما أم خاصّاً، عقليّا أم حِسيّا أم خياليّا، ويجوز أن تَرجعَ المناسبة إلى التلازم بين أجزاء الآية أو الآيات أو السُّوَرِ، سواء أكان هذا التلازم ذهنيا، كالسبب والمسبب، والعلة والمعلول، والنظيريْن والضِّدَّين، ونحو ذلك، أم كان هذا التلازم خارجيّاً كالمرتب على ترتيب الوجود الواقع في باب الخبر[9]. فالقرآن كلُّه كما قَرَّر الرازي في تفسيره لسورة القيامة، كالسورة الواحدة لاتِّصال بعضه ببعض[10].
أهميَّتُـــه
علم يُعِين على جعل أجزاء الكلام وقد أخذ بعضها بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط بينها، ويصير تآلفها كحال البناء المحْكَم، المتلائم الأجزاء[11]. قال محمد رشيد رضا في تفسير المنار، ج: 2/445: “وقد خطر لي وجه، وهو الذي يَطَّرِدُ في أسلوب القرآن الخاص، في مزج مقاصد القرآن بعضها ببعض من عقائد وحكم ومواعظ وأحكام تعبدية ومدنية وغيرها، وهو نفي السَّآمة عن القارئ والسامع من طول النوع الواحد منها، وتجديد نشاطها ومنهجها”.
فـائدتُـــه
إظهار الترابط والتناسق بين أجزاء الكلام، حتى تبدو السورة كلها كأنها آية واحدة، أو موضوع واحد ذو أجزاء متماسكة، وحتى يبدو القرآن كله كأنه سلسلة مكونة من عدَّة حلَقَات، كل حلقة آخذة بحجز أختها، على أشد ما يكون الأخذ، وإنَّ عدم مراعاة علم المناسبات بين السور أو الآيات، يُوقِعُ في بُعد عن المعنى حتى في الآية الواحدة، وهو ما حدث للعديد من أهل التفسير عند تعرُّضهم لتفـسير آية الأهــلة مثلاً، قال تعالى: “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الاَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْـحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَاتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اِتَّقَى وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ اَبْوَابِهَا” [سورة البقرة، الآية: 189]. جاء في سبب نزول صدر الآية: “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الاَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْـحَجِّ”، عن ابن عباس قال: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الأهلة فنزلت هذه الآية، وقال أبو العالية: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله، لِمَ خُلقت الأهلة؟ فأنزل الله: “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ”، وقوله تعالى: “وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَاتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اِتَّقَى وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ اَبْوَابِهَا” [سورة البقرة، جزء من الآية: 189]. قال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل بن أبي إسحق عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أَتَوْا البيت من ظهره، فأنزل الله الآية[12].
مكــانتُــه
العلم بالمناسبات بين الآيات القرآنية في السورة الواحدة، وبين السور في الكتاب كلِّه، أمر ذو خطر عظيم، لما له من شأن كبير في الدلالة على تفسير النَّظْم الحكيم تفسيراً موضوعياً، باعتباره واحداً من أدقِّ العلوم وأجلِّها ولما يحتاج إليه من حِسٍّ عال، وتذوُّقٍ رفيع للأساليب والنظوم، ليس على مرتبة العلاقات اللفظية والمعاني، وإنما على ما فوقها من رُتب تلمس ما وراء النظم من هدايات ولطائف ومعايشة لجَوِّ التنزيل، بل إنه من فرط دقته، كثيراً ما يَرِدُ إلى ذهن المشتغِل به على صورة فيوضاتٍ وإشراقاتٍ تَهُزُّ الفكر هزّاً، وتمسُّ الروح مسّاً، لذلك بدت نسبته إلى علم التفسير كنسبة علم البيان إلى علم النحو، فهو علم يُعِين على إدراك مقاصد القرآن الحكيم، وتذوق نَظْمه الراقي، ومعرفة علل ترتيبه نزولياً ومصحفياً، ومطابقة المقال لما اقتضاه الحال، وبيان أوجه الاتصال بين السورة القرآنية وما سيقَتْ له وأوجه الاتصال بين السورة وما قبلها وما بعدها؛ وذلك أمر يحتِّمُه الاعتقاد الجازم بتنزيه كلام رب العالمين عن المشابهة ناهيك عن التناقض: “اَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا” [سورة النساء، الآية: 82]. من أجل ذلك كانت المناسبة علماً عزيزاً، قلّ اعتناء المفسرين به لدقته، واحتياجه إلى مزيد فكر وتأمل، كما كانت علماً شريفاً تحزر به العقول ويُعرف به قدر القائل فيما يقول[13].
قِلَّـةُ الاهتمــام بهذا العِلــم
لقد صرَّحَ الإِمام البقاعي بقِدَمِ علم المناسبات القرآنية، وانتشارِه بين الصحابة والتابعين واعتمادِهم إياه في فهم آي الكتاب الحكيم، فقال: “كان أفاضل السلف يعرفون هذا بما في سليقتهم من أفانين العربية ودقيق مناهج الفكر البشـرية، ولطيف أساليب النوازع العقلية، ثم تناقَصَ هذا العلم حتى انعجم على الناس، وصار إلى حَدِّ الغرابة كغيره من الفنون”. ومع أن لهذا العلم الجليل فوائد غزيرة، إلا أنه لم يعتنِ به إلا القلائل من المفسّرين، يقول الزركشي رحمه الله: “وهذا النوع يُهملُه بعض المفسرين أو كثير منهم، وفوائده غزيرة”.
ونَقَلَ الزركشي أيضاً عن القاضي أبي بكر بن العربي في سراج المريدين، قوله: “ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة، متّسقة المعاني، منتظمة المباني، علم عظيم، لم يتعرّض له إلا عالِم واحد عمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله عزّ وجلّ لنا فيه، أنّا لم نجد له حَمَلة، ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه، وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه”[14].
وقال الشيخ أبو الحسن كمال الدين الشهراباني (تـ672هـ): “أول من أظهر ببغداد علم المناسبة ولم نكن سمعناه من غيره هو الشيخ الإمام أبو بكر النيسابوري (تـ342هـ)، وكان غزير العلم في الشريعة والأدب، وكان يقول على الكرسي إذا قرئ عليه: “لم جُعلَتْ هذه الآية إلى جنب هذه؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة؟ وكان يُزري على علماء بغداد لعدم علمهم بالمناسبة”[15].
أَبْرَزُ المؤلِّفِيــن في علــم المناسبــة
في علم المناسبة نجد عشرات من التفاسير والبحوث والرسائل والأجزاء، مع نُدْرَتِهَا التي بحثت مسائل هذا العلم وفصَّلَتْ القول فيه.
فها هو ابن العربي المالكي (تـ543هـ) يَزْعُمُ أنه كتب كتابا في مقاصد السور وتناسب الآيات والسور وعَرَضَهُ على الناس في زمانه، إذْ قال: رأيتُ الناس بَطَلَة لم يقبلوا عليه، ولم يهتموا له مع عظيم علمه وشرف معلومه، قال: “فلَمَّا رأيتُ ذلك الإعراضَ منهم أحرقتُه وجعلتُه بيني وبين الله جَلَّ وعَلا”.
وجاء في “أبجد العلوم” أن من القلائل الذين صنّفوا في هذا العلم، أبا جعفر إبراهيم بن الزبير الغرناطي الأندلسي (تـ708هـ) في كتاب سمّاه “البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن”، ثم جاء بعده كمال الدين بن الزملكاني (تـ727هـ)، صاحب “البرهان في إعجاز القرآن”، الذي اهتَمَّ اهتماماً كبيراً بالترتيب المصحفي وبَيَّنَ أسراره، فقال: “عند التأمل يظهر أن القرآن كلَّه كالكلمة الواحدة”، وأَفْرَدَ السيوطي (تـ911هـ) لهذا العلم كتابيْنِ أسماهما: “تناسق الدّرر في تناسب السور”، و”أسرار التنزيل”[16].
كما كتب في علم المناسبات والمقاصد القرآنية كتاباً ثالثاً سمَّاه: “مراصد المطالع في المقاطع والمطالع” وخَصَّ النوع الثاني والستِّين من كتابه: “الإتقان في علوم القرآن” بالحديث عن مناسبات الآيات والسور ذكر فيه أغلب ما ذكره الزركشي في “البرهان”، وزاد عليه في الأمثلة.
وقد اعتبر السيوطي مناسبة آيات القرآن وسوره، وارتباط بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة، وجهًا من وجوه إعجاز القرآن[17].
وقال إن من فوائده: “جعل أجزاء الكلام بعضها آخذًا بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط ويصير التأليف حالته حال البِنَاء المحْكَمِ المتلائم الأجزاء”[18].
وذكر في تعلّقات القرآن أربعة عشر نوعًا من أنواع المناسبات، نذكر منها: مناسبة ترتيب السور، وحكمة وضع كل سورة موضعها، ومناسبة اعتلاق فاتحة السورة بخاتمة التي قبلها، ومناسبة مطلع السورة للمقصد الذي سيقت له، ومناسبة أول السورة لآخِرِها، ومناسبة ترتيب الآيات واعتلاق بعضها ببعض، ومناسبة أسماء السور لها.
وذكر السيوطي مؤلّفًا آخَرَ أفرده برهان الدين البقاعي (تـ885هـ)، في كتاب سمّاه “نظم الدرر في تناسب الآي والسور”، قام فيه بجمع مناسبات السور والآيات مع ما تضمّنها من بيان جميع وجوه الإعجاز وأساليب البلاغة، وقد اشْتُهِر هذا الكتاب بكتاب المناسبات، وصفه صاحب كشف الظنون بقوله: “هو كتاب لم يسْبِقْهُ إليه أحد، جمع فيه من أسرار القرآن ما تتحَيَّرُ منه العقول”[19].
وقد اتَّهَم البقاعيُّ أبا الحسن عليّ بن أحمد التّجيبي الحرالّي المغربي (تـ637هـ)، نزيل حماة بأنه قد أخذ كل ما في كتابه من “نظم الدُّرر”، يقول المناوي في الكواكب الدرية: 2/ 465، في ترجمة الحرالي “وصنف تفسيراً ملأه بحقائقه، ودقائق فكره، ونتائج قريحته، وأبدى فيه من مناسبات الآيات والسور ما يُبْهِرُ العقول، وتحار فيه الفحول، وهو رأس مال البقاعي، ولولاه ما راح ولا جاء، ولكنه لم يتم، ومن حيث وقف وقف حال البقاعي في مناسباته”.
ووجدنا الإمام الآلوسي رحمه الله يهتَمُّ في تفسيره في أثناء أول كل سورة ببيان المناسبة بين السورتيْن وكذلك فخر الدين الرازي رحمه الله، الذي أَكْثَرَ من التماس المناسبات في تفسيره، فقال في تفسير أواخر سورة البقرة: “ومَنْ تأَمَّل في لطائف نظم هذه السورة، وفي بدائع ترتيبها عَلِمَ أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشَرَفِ معانيه، فهو أيضا معجز بحسب ترتيبه ونظم آياته، ولعل الذين قالوا: إنه معجز بحسب أسلوبه، أرادوا ذلك، إلاَّ أني رأيت جمهور المفسرين مُعْرِضِين عن هذه اللطائف غير متنبهين لهذه الأمور، وليس الأمر في هذا الباب إلا كما قيل:
والنجمُ تستصْغِـــــــرُ الأبصـــارُ رُؤْيَتَهُ والذَّنْبُ للطَّرْفِ لا للنجمِ فــي الصِّغَرِ[20].
كما تصدَّى ابن النقيب الحنفي في تفسيره لذكر المناسبات، وكذلك الشيخ محمد عبده رحمه الله كانت له عناية بعلم المناسبة في تفسير المنار، الذي جمعه وأتَمَّه رشيد رضا، أما الأستاذ سيد قطب رحمه الله، فقد أبدع في إبراز ألوانٍ من التناسق الفني في التصوير القرآني في كتابَيْه: “في ظلال القرآن”، و”التصوير الفني في القرآن”، وضَارَعَهُ الشيخ مصطفى المراغي رحمه الله، في تفسيره.
أما الشيخ عبد الله محمد بن الصّدِّيق الغُمارِيّ، فقد أَفْرَدَ كتاباً خاصّاً عن المناسَبَةِ، أَسْمَاهُ: “جواهر البيان في تناسب سور القرآن”[21]. وكذلك الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله، تكلَّم عن هذا العلم وعن أهميته وفوائده في كتابه: “التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن”.
كما نُوقِشَتْ رسالة جامعية بعنوان: “التناسب البياني في القرآن، دراسة في النظم المعنوي والصوتي” للدكتور أحمد أبو زيد، وهي أطروحة دكتوراه الدولة، نوقشت سنة 1990م، وطَبَعَتْها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، المغرب: 1992م.
ونُوقشَتْ رسالة أُخرى لنَيْلِ الدكتوراه بكلية أصول الدين، جامعة الأزهر، بعنوان: “المناسبات في ترتيب آيات القرآن وسُوَرِه”، للباحث د. محمد أحمد يوسف القاسم.
وقد كتب شيخُنا الدكتور المُبَجَّل عبد الحكيم الأنيس في نشأة علم المناسبات بحثاً مُحَكَّماً نُشِرَ في “مجلة الأحمدية” التي كانتْ تصدُر عن دار البحوث للدراسات الإسلامية، وإحياء التراث في دبي بالإمارات العربية المتحدة في العدد الحادي عشر، جمادى الأولى 1423هـ بعنوان: “أضواء على ظهور علم المناسبة القرآنية”، بَيَّنَ فيه أقول العلماء في نشأة هذا العلم، وخَلُصَ إلى أن أبا بكر النيسابوري الذي نُسِب إليه السَّبق إلى علم المناسبة القرآنية، ليس هو السابق إليه، وعَزَا الأخطاء الواقعة في نسبة هذا العلم إلى تصَرُّفِ السيوطي في كلام أبي الحسن الشهراباني، وتسَرُّعِ بعض المحقِّقين في إلصاق ترجمةٍ بأبي بكر النيسابوري على سبيل الجزم من غير دليل[22].
كما سَطَّرَ الدكتور نور الدين عتر بَحْثاً في هذا الباب، بعنوان: “علم المناسبات وأهميته في تفسير القرآن الكريم”[23]. واقتفَى أثَرَهُ الدكتور إبراهيم بن سليمان آل هويمل، إِذْ بَيَّضَ بحثَهُ الموسوم ب: “علم المناسبات بين المانعين والمُجِيزين”[24].
ومن العلماء المُحْدَثِينَ الذين بَيَّنُوا لطائف علم المناسبة ومزاياه الشيخ الزرقاني، إذ يقول: “إن القرآن تقرؤُه من أوله إلى آخِرِه، فإذا هو محكم السَّرد، دقيق السبك، متين الأسلوب، قوي الاتصال، آخذ بعضه برقاب بعض في سوره وآياته وجمله، يجري دم الإعجاز فيه كله من ألفه إلى يائه، كأنه سبيكة واحدة، ولا يكاد يوجد بين أجزائه تفكّك ولا تخاذل، كأنه حلقة مفْرَغَة، أو كأنه سمط وحيد وعقد فريد يأخذ بالأبصار، نُظِمت حروفه وكلماته، ونُسقتْ جمله وآياته، وجاء آخِرُه مساوقًا لأوله، وبدا أوله مواتيًا لآخره”[25].
كما بَرَعَ الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في وصف هذا العلم الجليل، قائلاً: “وبالجملة؛ فإن هذا الإعجاز في معاني القرآن وارتباطها أمر لا ريب فيه، وهو أبلغ في معناه الإلهي إذا انتبهت إلى أن السور لم تنزل على هذا الترتيب، فكان الأحرى أن لا تلتئم وأن لا يناسب بعضها بعضًا، وأن تذهب آياتها في الخلاف كل مذهب، ولكنه روح من أمر الله تفرّق معجزًا، فلمّا اجتمع له إعجاز آخَر، ليتذكّر أولو الألباب”[26].
أما الإمام عبد الحميد الفراهي فقد أشاد بهذا العلم المَاتِعِ الضروري في قوله: “وربما يحطّ عندك قدر خطيب مصقع أتى بفنون من البلاغة، وأثّر في النفوس بخلابة، بيانُه لمحض أنه ذُهل عن ربط الكلام فهام من وادٍ إلى واد، مع أنه معذور؛ لأنه ألقى خطبته ارتجالاً ولم يُعْمِلْ فيها النظر والروِيَّة، وما مؤاخذاتك لذلك الخطيب إلا؛ لأن الكلام البليغ لا يحتملُ سوء الترتيب، فإذا كان الأمر كذلك، أليس من الموقن بإعجاز القرآن أن يثبت حسن نظمه، وإحكام ترتيبه، وتناسق آياته وسُوَرِه؟[27].
——————————————
1. ابن منظور: لسان العرب، مادة نسب، الفيروزابادي: القاموس المحيط، مادة نسب الزركشي، البرهان: 1/35، السيوطي، الإتقان: 2/108، السيوطي، معترك الأقران: 45- 59.
2. نظم الدرر للبقاعي: 1/6.
3. مباحث في علوم القرآن، لمَنَّاع القَطَّان، ص: 97، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط: 22، ص: 97.
4. دلائل النظام للفراهي، ص: 75، الدائرة الحميدية ومكتبتها، الهند: 1388هـ.
5. نظم الدرر: 1/17 – 18.
6. مباحث في تفسير الموضوعي، د. مسلم: 60 -61.
7. ينظر: الفصل والوصل، للدكتور بسيوني عرفة، ص:39، مكتبة الرسالة، القاهرة.
8. الكشاف عن حقائق التنزيل، وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، ج: 1، ص: 497، وج: 2، ص: 153، مطبعة مصطفى محمد، القاهرة.
9. البرهان: 1/35، الإتقان: 2/108.
10. التفسير الكبير، للرازي: 10/719، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط: 2/1417هـ – 1997م.
11. البرهان: 1/36، الإتقان: 2/108.
12. البرهان: 1/37، السيوطي الإتقان: 2/108 و138، أسرار ترتيب القرآن: 30، النبأ العظيم: 160.
13. الزركشي، البرهان: 1/35.
14. البرهان في علوم القرآن، لبدر الدين الزركشي: 1/62.
15. البرهان: 1/36.
16. أبجد العلوم، لصديق القنوجي، المجلد الثاني، باب علم معرفة مناسبات الآيات والسور.
17. معترك الأقران في إعجاز القرآن، لجلال الدين السيوطي، ص 43.
18. المصدر السابق، ص: 45.
19. الإتقان في علوم القرآن، لجلال الدين السيوطي: 3/288.
20. تفسير الرازي: 4/140
21. طُبِعَ ط: 1، بالقاهرة، والثانية بعالم الكتب، بيروت، عام: 1986م.
22. ينظر المجلة الأحمدية، عدد: 11، ص: 59-60.
23. نُشِرَ في مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي، العدد: 11/1416ه-1995م.
24. نُشرَ في مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، العدد: 25، المحَرَّم 1420ه.
25. مناهل العرفان، لمحمد عبد العظيم الزرقاني: 1/53.
26. إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، لمصطفى صادق الرافعي، ص: 244.
27. دلائل النظام، عبد الحميد الفراهي، ص: 39.
أرسل تعليق