“الفن” من المنظور الإسلامي (1/2)
إن منظومة القيم الإسلامية تضم بين مفرداتها قيما بارزة الأثر في حضارة الأمة، وفي طليعتها قيمة “الفن” التي تشكل أخص خصائص الإسلام، وأبرز معالمه التي تكاد تطبع كل مجالاته الثقافية من الآداب والفنون التي تعد بدورها مقوما رئيسا للحضارة الإسلامية والهوية، إذ لا يمكن لهوية الأمة أن تكتمل إذا لم يكن للآداب والفنون مكانها البارز فيها، فالفن عنصر من عناصر الفكر، يتكامل مع الأدب والاجتماع والأخلاق والدين والحضارة، ويسمو بالغرائز ويرتفع بالنفس الإنسانية إلى الكمال دون أن يبعد عن الواقع، والفن في نظر الإسلام وسيلة تجميل الحياة، وأداة للإسعاد الروحي والنفسي، وإذا كان البحث في أي موضوع يقتضي تحديد منهج المعالجة؛ فإني أعلن عن مقاربة الموضوع بعيدا عن زاوية الحلال والحرام، أي التركيز على إبراز الحكم الشرعي للفن؛ لأن بحث الموضوع من هذه الزاوية بلغ درجة من الإشباع والتخمة، ولكن سيتركز البحث للموضوع من زاوية خصائصه ومقاصده وضوابطه ومجالاته، بعد تحديد مفهومه وبيان حده..
مفهوم الفن
لا شك أن الباحث يجد صعوبة في تحديد مثل هذه المفاهيم “الفن” لسببين اثنين هما: اتساع مجالاته، وتعدد مدارسه، ومع ذلك فقد تناوله الكثيرون بتعاريف متقاربة، خلاصاتها كالآتي:
الفن لغة: واحد الفنون، وهي الأنواع، والفن: الحال، والفن: الضرب من الشيء، والجمع أفنان وفنون[1]، والأفانين: الأساليب، وهي أجناس الكلام وطرقه، ورجل متفنن، أي ذو فنون[2].
وبالمعنى العام: هو تعبير الإنسان، بمختلف وسائل التعبير، عن مشاعره تجاه صور الجمال في المحيط من حوله أرضا وسماء وبحارا وجبالا وأشجارا وطيورا وحيوانات… ويعرف في معاجم اللغة أيضا بأنه: كل متقن من الأعمال، ويدخل تحت مصطلح الأعمال الأقوال، وبذلك يسمى متقن صنعة النجارة والرسم ونظم الشعر والقوافي فنانا، بشرط الانضباط بضوابط محددة وآداب عامة، فما كان حسنا من الفنون في حكم الإسلام فهو حسن، وما كان في نظره قبيحا فهو قبيح، يؤيد هذا الكلام الذي أورده الإمام أحمد في مسنده حول الشعر، قال: قال العلماء: “الشعر كالكلام، حسنه حسن وقبيحه قبيح”[3] وتستنبط منه قاعدة يمكن تعميمها على جميع أنواع الفنون بكل أشكالها التعبيرية.
أما خصائصه فأكثر من أن تحصى وأبلغ من أن تستقصى لشمول معالمه الحياة المادية والمعنوية، ولاتصاله بالجمال الذي يعلو وجه الوجود كله، لكن الذي ينبغي التنبيه عليه هو أن الفن في الإسلام له مميزاته الخاصة به؛ بحيث لا تتعارض مع معتقده وروحه، وإليك بعضها:
1- أن الفن في الإسلام محرر من القيم التي يقوم عليها الفن في الفكر الغربي المادي والتي منها على سبيل المثال:
– عبادة الجسد الجميل وتقديسه وتقديم القرابين تأثرا بالفكر اليوناني الوثني، بينما الفن في الإسلام لا يدعو إلى عبادة الجسد والشهوات والغرائز، ولكن يدعو إلى اعتماد منهج منضبط واضح المعالم في تصريف الطاقات، وإشباع الغرائز، حفاظا على مكانة الإنسان بين مخلوقات الأرض، حتى لا تنزل به الأهواء والغرائز إلى درك البهيمية التي لا تليق بمستوى التكريم الإلهي له؛
– من القيم التي يقوم عليها الفن في الفكر المادي، الصراع بين الآلهة والإنسان المستمد من فكرة “الخطيئة” الأصلية، وهذه القيمة لا مكان لها في الفكر الإسلامي، فالمسلم لا يرى مصارعة القدر طريقا لإثبات الذات؛
– الإيمان بتعدد الآلهة وتجسيد الإله في صورة من الصور الحسية الملموسة كالتماثيل، والقيمة كيفما كانت مرجعيتها ومصدرها فإنها تحكم التعبير لدى الفنانين الذين ينطلقون من هذه الخلفيات الفكرية بشكل واضح، ولعل السبب في اختلاف الفنون في أشكال تعابيرها راجع إلى تلك الخلفيات الثقافية والمعتقدات المستقرة التي ينطلق منها كل فنان؛ لأن الفن متصل بوجدان الشعوب ومشاعرها، ويعمل على تكوين ميولها وأذواقها، واتجاهاتها النفسية، بأدواته المتنوعة والمؤثرة، مما يقرأ أو يسمع أو يحس أو يتأمل.
2- أن الفن في الإسلام (التعبير عن المشاعر) منضبط بعقيدة التوحيد، وبالتالي فهو فن ينسجم مع الفطرة السليمة، فن يرقى بالمشاعر والأذواق والنفوس إلى مستوى أليق وأشرق….
خلاصات
– إن المجال الفني كان أكثر المجالات الحضارية تأثرا بالحركة الفكرية العالمية بأبعادها المادية، ومفاهيمها المتنوعة، فمال الناس بالفن – مفهوما وممارسة – عن خطه ووجهته ودلالاته ووظائفه، حتى أصبح في زاوية ضيقة لا يؤدي دوره الحضاري المشهود؛
– يلمس كل مهتم بالمجال، على مستوى الإنتاج الفكري في أروقة المكتبات، مقارنة بالإنتاج الفكري في مختلف المجالات العلمية، يلمس ذلك الانحسار للفن، وتراجع دوره الرسالي والحضاري في مجالات الحياة المادية كالعمران ذوقا وطابعا، والفكرية كالأدب والبيان، نظما وسحرا.
——————————–
1. لسان العرب، ج: 13، ص: 326.
2. مختار الصحاح، ج: 1، ص: 215.
3. مسند الإمام أحمد، جزء 3، ص: 96.
أرسل تعليق