الفكر وتوجهات النفس
لا تتصور حركة الفكر خارج دائرة الوعي بما ينفع وما يضر وما يحسن فعله وما يقبح، وما يجب القيام به وما يجب تركه، مع حضور الاستعداد لمواجهة كل ظرف وكل مشكل طارئ بما يناسبه ويحاصره، ويمنع استمراره وحصول عواقبه وأضراره. وبعبارة وجيزة استدامة اليقظة والحذر والنباهة بما يجعل تصرف المرء سلوكا صحيحا لا يترتب عنه خلل أو قلاقل له شخصيا ولغيره تبعا.
وإذا انعدم الوعي وغابت اليقظة ولو في لحظة زمنية محدودة كان ذلك مؤشرا على اضطراب الفكر واختلال وظائفه، وفقدت الثقة فيمن لوحظ عليه ذلك، وحام الشك حول سلامة فكره وصحة قدراته العقلية. فهو في هذه الحالة معرض لأن يورد نفسه وغيره المهالك ويأتي بما لا تحمد عقباه، ويكون من مصلحته ومصلحة المجتمع أن يوضع تحت الحراسة المشددة وأن ينبه من يحيطون به إلى حاله، وأن يلتمس له العلاج الممكن على عجل، فهو غير مسؤول عما سيصدر منه من أفعال ومواقف، إذا انتابته حالة فقدان الوعي.
أما من يختار أن يضيع وقته في اللعب واللغو، أو يستعمل طاقته الفكرية في التخطيط للقيام بأعمال إجرامية وسلوكات مشينة، فإنه مسؤول عن أفعاله ما دام يقوم بها بوعي ذهني كامل واعتمادا على تفكير سابق وإرادة ثابتة.
فالفكر السليم لا يفتأ ينبه ويذكر ويحذر ويحرك الإنسان نحو ما تكون به سعادته وراحته وتتحقق مصالحه ورغباته وتتراجع مشاكله وهمومه، وتتلاشى مخاوفه ومحاذيره، لكن النفس تستميت في خمولها وكسلها راضية بالحد الأدنى من الراحة ما دامت الزيادة عليه تتطلب منها جهدا أكبر وعملا مضنيا ودؤوبا.
فعلى مدى حضور الوعي يستمر التفكير ولو في حدوده الدنيا، وعندما يغفل الإنسان القيام بعمل مهم يكون تفكيره في غيره هو ما استولى على ذهنه فحال دون تذكره إياه، وحالات النسيان واختفاء الوعي، تقع خارج مجال المسؤولية كما هو مؤكد في كلام رسول الله “إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه” [1] .
فإذا غاب الفكر أو انعدمت حريته رفعت المسؤولية عن الأفعال التي تباشرها الجوارح، وكانت حال المرء أشبه بالعدم في الفترات التي لم يعد فيها مسؤولا عن إدارة ذاته، وهذا يحيلنا على ما قاله ديكارت “Descartes” وهو يحاول البرهنة على وجوده فانتهى به تفكيره إلى مقولته المشهورة: “أنا أفكر إذن أنا موجود”.
كما أن الخواطر التي تهجم على النفس بدون استئذان، إذا رفضها الفكر ولم يتجاوب معها لا يكون مسؤولا عما اشتملت عليه من انحراف وقبح، إذ التفكير المجرد في ما هو شنيع ومنكور لا يصدر غالبا إلا عن نفس دنيئة وآثمة، ولقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا غير مسؤولين عن واردات الخاطر التي نضيق بها درعا ولا ينساق فكرنا معها: “إن الله تجاوز لأمتى ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به” [2] ويدعم هذا الحديث آخر هو قول الرسول الكريم: “إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة فإن هو هم بها وعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة” [3].
ومع وجود الوعي ينشط الفكر في حركته التي تختار لها النفس اتجاها معينا يتم التركيز عليه، أو يبحث في كل الاتجاهات الممكنة قبل الحسم في أولوية أحدها. وبعد ذلك يحدد القلب غاية يريد تحقيقها فيستعين بالفكر ليؤطر توجهه ويدعمه، وفي جل الأحوال يتعبأ الفكر لخدمة النفس، بحيث تكون لإرادتها الهيمنه شبه التامة على مساره وأحكامه وحججه.
وهذا ما يفسر كون الكثير من معتقدات الناس ومذاهبهم تصطدم في العديد من جوانبها مع العقل ومسلماته وبديهياته، كما أن المفاهيم والتصورات، والعادات السائدة في البيئة الاجتماعية تتدخل بقوة في توجيه عمل الفكر والتأثير على قراراته، فعندما يأتي رسل الله عليهم السلام أقوامهم بعقيدة التوحيد، يواجهونهم بأنهم لن يتخلوا عن معبوداتهم التي ورثوها عن الأجداد جيلا بعد جيل، “وَلَقَدْ ـ اتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا ءابَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَءابَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ اََنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْاَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ” [سورة الأنبياء، الآيتان: 51-56]. فهؤلاء القوم لم تستطع عقولهم الاهتداء إلى بطلان الوثنية وزيفها لأن نفوسهم تشربت هذا التوجه وغدا قناعة ثابتة تحجب عنهم الحق وتمنع إبصاره.
وحتى عندما يسعى الإنسان في طلب الحق والانضباط لمقتضياته، فإن عليه أن يتفطن لما يكمن في نفسه من شهوات ورغبات تحيد بفكره عن صلب الحق، وتدخل فيه قدرا من الهوى والشطط وهو لا يشعر بذلك ولا ينتبه له.
وقد تصدى الغزالي لتفسير هذه الظاهرة بقوله: “فإن المطيع القاهر لشهواته المتجرد للفكر في حقيقة من الحقائق قد لا ينكشف له ذلك لكونها محجوبة عنه باعتقاد سيق إليه في ضد الحق منذ الصبى على سبيل التقليد، والقبول بحسن الظن يحول ذلك بينه وبين حقيقة الحق، ويمنع أن ينكشف في قلبه خلاف ما تلقفه من ظاهر التقليد.
وهذا أيضا حجاب عظيم به حجب أكثر المتكلمين والمتعصبين للمذاهب بل أكثر الصالحين المتفكرين في ملكوت السماوات والأرض، لأنهم محجوبون باعتقادات تقليدية جمدت في نفوسهم ورسخت في قلوبهم وصارت حجبا بينهم وبين درك الحقائق” [4].
فما أوفر الأدلة والمؤشرات التي تقضي بأن القلب هو الذي يقود الفكر وليس العكس، فعندما تنشأ في القلب إرادة معينة، يعرضها على العقل بقصد النظر في مدى انسجامها مع التوجه الشخصي المستحكم خلال تجربة الحياة الماضية. وفي ظل هذه الحقيقة يواجهنا سؤال عريض هو ما مدى انتفاع النفس بالعمليات العقلية، ألا تستعين بها في تبين المسلك الصحيح والمسلك الخطأ؟
ذلك ما نتبين مسؤولية النفس عنه في حلقة قادمة بحول الله.
———-
1. صحيح ابن حبان – حديث رقم 7219، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط البخاري.
3. صحيح البخاري – حديث رقم 6126.
4. أبو حامد الغزالي، معارج القدس في مدارج معرفة النفس – دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1409/1988. ص 102.
أرسل تعليق