الشباب وأزمة القيم
يعرف الشباب في مجتمعاتنا العربية تحولات مريبة على مستوى منظومة القيم، إذ أصبح التماهي مع كل وافد من القيم، ولو كانت تلك القيم متعارضة مع قيمه ومرجعيته الثقافية، ومحاولة استدماجها ثم ترجمتها من خلال سلوكيات وتمظهرات تتجسد في اللباس وتصفيف الشعر وأنواع الاهتمامات… كل ذلك يعبر بوضوح عن التوجه نحو الاغتراب عن واقعه ومحيطه الاجتماعي، مما يثير عدة تساؤلات عن الأسباب الموضوعية لهذه المسارعة إلى التمرد على أطره المرجعية المتمثلة في الأسرة والمجتمع والأعراف والقيم السائدة فيهما والمستمدة من مضامين ثقافته وهويته، إنها إشكالية حقيقية.
ولمقاربة هذه الإشكالية سأحاول رصد أسباب الظاهرة من خلال المحاور التالية:
• أزمة الشباب من أزمة القيم؛
• سيكولوجية الشباب؛
• ضمور دور المؤسسات التربوية في مجال نقل القيم.
إذا كانت أزمة القيم الضاربة في عمق الحياة العامة بجميع مجالاتها، مما يكاد يجمع عليه كل المتتبعين من الاجتماعيين والاقتصاديين وحتى السياسيين، وأنها أصبحت ظاهرة طالت انعكاساتها كل الناس ومن مختلف الأعمار وفي مقدمتهم الشباب؛ فإننا لا نستغرب أن يفشو في أوساطهم الإدبار عن قيمهم الأصيلة التي تعمل على تثبيت شخصيتهم وترسيخ مقومات هويتهم، والإقبال المنقطع النظير على تمثل القيم الساقطة في السلوك، سواء كانت محلية أو وافدة، من قبيل القيم الاستهلاكية لدرجة أصبح معها الشباب لا يفكرون إلا في إشباع حاجاتهم المادية، ونسوا أن القيم ليست كلها من جنس ما يتصل بالاستهلاك، وإشباع الغرائز وحدها، وإنما القيم منظومة نسقية متكاملة، تضم مجموعة من المبادئ والقواعد والأعراف التي تحكم السلوك بين مكونات المجتمع، وهي بمثابة المعيار الرئيس في صياغة وتوجيه التصرفات على نحو يخدم تقدم المجتمع في جميع مجالات الحياة، وإذا اختل النظام القيمي واهتز؛ فإن الإنسان يفقد توازنه النفسي والاجتماعي، ويصبح كالريشة في مهب الريح، مائعا/تابعا، ليس له قرار شخصي[1]، ويصدق عليه قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الإمام الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا”[2] كل ذلك نتيجة ما أصاب منظومة القيم وعقدها من انفراط وتشتت وتناقض، فانعكس ذلك بالضرورة –سلبا- على الناس عامة، وعلى فئة الشباب خاصة، حيث وجدوا في واقعهم قيما مادية متدنية اعتاد الناس التعامل بها مثل: الرغبة في الثراء السريع أو الكسب غير المشروع، أو الرشوة والمحسوبية، رغم كونها قيما فاسدة إلا أنها ما دامت تلبي الحاجة الملحة للأفراد التي يفرضها الواقع الاجتماعي؛ فإنهم يقبلون على التعامل بها وممارستها، ومع طول الزمن وبحكم الإلف تصبح تلك القيم واقعا مألوفا، وهكذا تنتشر القيم الفاسدة وتحل محل القيم الصالحة للإنسانية كلها، والتي تحقق لها السعادة في الدنيا والآخرة، يساعد الشباب على الانخراط في هذه التحولات القيمية عوامل سيكولوجية تطبع المرحلة التي يمرون بها، تلك المرحلة الانتقالية التي تحمل في طياتها القديم الذي خرجوا من رحمه، والجديد الذي يتجهون إليه، ولكل من الاثنين (القديم والجديد) خصائصه التي تميزه والتي قد تصل إلى درجة التعارض الذي قد يأخذ بدوره طابعا حادا إن لم يجد توجيها حكيما وراشدا[3]، وأبرز خاصية يتميز بها الشباب هي الطموح الجامح، والتطلع إلى مستقبل ذي أفق واسع الرغبات، لا تحده حدود، وهذا من شأنه –مع الفراغ القيمي– أن يحدث اهتزازا في النفس واضطرابا في السلوك.
وإذا كانت مرحلة الشباب هذه تفتقر إلى الاتزان والاستقرار، وتنطبع بالاندفاع والحماس الزائد، فإن الشباب –إذا أبقي على التناقضات بين القيم والممارسة في الواقع– ستتعمق الهوة بينه وبين قيمه الدينية والوطنية، وسيصبح على كامل الاستعداد للانقياد لكل السلوكيات التي تقع تحت الحواس، لدرجة التماهي وذوبان الشخصية، والانسلاخ من الجلد ولعل من الأسباب المباشرة في إفراز الظاهرة ضمور دور المؤسسات التربوي (الأسرة والمدرسة والمجتمع).
إن الشباب قبل أن يصلوا إلى هذه المرحلة كانوا أطفالا، نشأوا في أحضان الأسرة والمدرسة وبينهما تنقلوا في فضاءات المجتمع، ولا حظوا عن قرب سلوكيات الآباء والأساتذة، وتشربوا من معين الأسرة والمدرسة والمجتمع قيما توجه سلوكهم وتحدد معالمه، ويصدرون عنها في مواقف الحياة الخاصة والعامة على قاعدة “الإناء يرشح بما فيه”.
وبالتالي فهؤلاء الشباب من مخرجات هذه المؤسسات التي تقلل من أهمية قيم الحوار والتعبير عن الرأي والاختلاف واحترام الرأي المخالف، ولا تعمل على تجسيدها بالحرص على التطابق بين مضمون القيم والسلوك الفعلي للمربي، حتى تتعمق تلك القيم في نفوس النشء ويترجمها إلى سلوك يومي؛ لأن مصدر الأزمة “أزمة القيم” هو التعارض بين القيم المتصلة بالحياة والموجهة للسلوك، وبين الممارسات على أرض الواقع..
خلاصات:
• إن السبيل إلى تجنيب أبنائنا السقوط في سلوكيات سافلة، والصدور عن قيم زائفة بمبرر تلبية الحاجيات ودفع الإكراهات، هو العودة إلى التشبث بقيمنا الثابتة ومثلنا العليا، والعمل على ترسيخها بالسلوك النظيف؛ لأن التناقض بين الأقوال والأفعال يؤدي إلى زعزعة الثقة في النظام العائلي والاجتماعي؛
• “الإنسان ابن بيئته” يتأثر بالمحيط الذي يعيش فيه، فالفرد الذي يعيش في مجتمع يُعلي من شأن قيمة ما، فحتما سيسير في نفس الاتجاه، ويكون المجتمع مسؤولا عن التنشئة السلبية لأبنائه على قيم بديلة، والزج بهم في متاهات لا نهاية لها.
—————————–
1. عثمان فراج، الشباب والتحولات الاجتماعية في الوطن العربي، المجلة العربية للثقافة، العدد: 31، ص: 137-136.
2. أخرجه الترمذي في سننه، رقم : 1930
3. إبراهيم كاظم، القيم السائدة بين الشباب، القاهرة، ص: 28.
-
نشكرك أستاذنا الكريم على طرحك لهذا الموضوع، فالملاحظ أن مظاهر هذه التبعية بدأت تستحفل وتتفشى بين شبابنا وتأخذ أشكالا مختلفة ودخيلة على ثقافتنا. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا تحققت هذه التبعية والانصياع لقيم الاخر بدون تمحيص ووعي بمساوئها؟
والإجابة تتعدد:
0. هل السبب هو البحث عن قيم (بديلة) تحل محل القيم التي تلقاها؟ ٢. أم أن السبب راجع إلى أن هذه القيم الغربية فرضت نفسها على شبابنا حيث تسربت إليه من كل ناحية، حتى حاصرته وحقنت مصلها فيه، لأهداف معروفة أو غير معروفة؟ مهما كانت الإجابة فإن كلها صحيحة، فشبابنا منبهر بالحضارة الغربية؛ لأنها حققت العدل الاجتماعي والكرامة الإنسانية واحترام الحقوق والديمقراطية، والشباب متأثرون بأوضاع البلاد المتأزمة، وقد ضيق عليه الخناق، فأصبح يحس أن لا رأي له ولا صوت له ولا قرار له، واكتشف أن القيم التي تلقاها لا وجود لها على أرض الواقع، هناك قمع للطاقات وللإبداعات، لا أندية ولا مركبات لاحتضان الشباب من الأوساط الفقيرة لتفعيلهم وتطوير قدراتهم، أين هي مساحة الشباب من الندوات واللقاءات والمحاضرات للتثقيف ونشر الوعي؟ أين هي الجمعيات الخاصة للشباب؟
أين هو دور الإعلام؟ الذي يركز فقط على تغطية المسابقات الغنائية للشباب، وبرامج يستضاف فيها فقط المغنيين والممثلين، ليحذو الشباب حذوهم، ناهيك عن المسلسلات الدولية التي تبث صباح مساء، وأصبح أبطالها هم المثل والقدوة، فانتشرت الميوعة والانحلال والفواحش. فنتج عن كل هذا الخواء الفكري والإنساني؛ لأن الحصانة الفكرية ستحميه من أي اختراق ثقافي.
ويا للأسف هذا النبذ والتهميش ولد الكبت، والكبت يولد الانفجار والتسخط على القيم التي تلقاها ونشأ عليها، مما دفعه إلى البحث عن قيم بديلة تشبع حاجاته، فوجد ضالته في القيم الغربية؛ لأنه وجد صوته مسموعا، والحرية (الإباحية)، لا قيود ولا قمع ولا استعباد، فانساق وراءها بلا تخمين أو وعي بمخاطرها، فنحن مسؤولون عن ما يحصل لشبابنا. فالحل يكمن في إعادة الثقة لهذا الشاب في بلده وفي قيمه الوطنية والدينية، وهذا يتأتى بإعادة بناء العلاقة وتوطيدها معه، داخل الأسرة والمجتمع والمعاهد التربوية، وإسهام الإعلام ببث برامج هادفة تستقطب الشباب ومنحه الفرصة للنقاش والحوار في شتى المجالات…
التعليقات