Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

الزعامة في العائلات الصوفية.. بيت أبي المحاسن الفاسي نموذجــا (4)

استمرار المنافسة

غدا عبد الرحمن العارف كبير أهله في بيت أبي المحاسن، وكبير الطائفة الصوفية الفاسية. ومنذ استئثاره بالزعامة صار الاهتمام موجها إلى من يخلفه. وكانت الأنظار موجهة هذه المرة إلى رجل لا يمت بصلة القربى إلى أسرة أبي المحاسن الفاسي، ولا إلى عائلة ابن الجد الفهري، التي انحدر منها  آباء هذه الأسرة.

ونعني بهذا الرجل الشيخ أبا عبد الله امحمد بن محمد بن عبد الله بن معن[1]، ومرد هذا التوجه إلى أن هذا الرجل، كان مثل عبد الرحمـن العارف، من أصحاب أبي المحاسن، وممن بلغ في الطريقة الفاسية- المجذوبية، مقاما عاليـا جدا حتى جعـل البعـض يظـن أنــه الوارث لشيخه[2]. وإذا كان ابن معن يشترك في هذه المزايا مع كثير من رفاقه في صحبة أبي المحاسن الفاسي؛ فإنه انفرد عنهم جميعا بميزة هامة  تجلت في اختياره الانحياش إلى أبي زيد عبد الرحمن العارف.

وتكمن أهمية هذا الانحياش، في كونه الوحيد الذي انضاف لعبد الرحمن العارف، دون غيره من أصحاب شيخهما أبي المحاسن، الذين التفوا حول أبي العباس الحافظ في زاوية والده أبي المحاسن، كما تقدم، إذ لم يخرج مع العارف من أول مـرة سواه، فكانا يجلسان بباب الرواح بجامع القرويين، فبقيـا على ذلك سنين، كما تقدم أيضا، قبل أن يلتحق به غـيره، “.. علما منه.. ببصيرته أنه هو الوارث والخليفة [لأبي المحاسن]، فتبعه من فوره، وعوَّل عليه في تكميل أمره[3]. وقد بقي برفقته من (سنة 1013هـ/1604م) إلى وفاة شيخه العارف (سـنة 1036هـ/1626م)، “.. وهو يخدمه بنفسـه وماله، والشيخ ينوه به ويجله ويعظم أمره[4] ، ويشير إلى ما يفهم منه أنه الوارث له، والخليفة من بعده[5].

لكن، وعلى غرار ما حدث للوارث الأول، أعني عبد الرحمن العارف، لم تُمَكِّن الوراثة الروحية ابن معن من أن يخلف الموروث حاله على رأس زاويته بالقلقليين. فقد تخلف عنها، ومكث بداره لا يتصدى لأحد، وكان يقول لمن يعتقد في خلافته، ويريد السلوك على يده: “الحقيقة ورثتها، أو وردتها، ولا إذن عندي[6]. وبقي على حاله من الانكماش نحو العامين، فلما زار ضريح مولاي عبدالسلام بن مشيش (سنة 1038هـ/1628م)، وقع له الإذن هنالك بتربية المريدين، كما أخبر به عن نفسه[7]. ولكن، رغم هذا الإذن الروحاني، لم يستطع، حينما رجع إلى فاس، التصدر للمشيخة في زاوية شيخه عبد الرحمن العارف، وإنما أعاد فتح زاوية شيخه الأول أبي المحاسن الفاسي، وتصدى فيها للمشيخة وتربية المريدين، ومن انضاف إليه من أصحاب شيخه الثاني عبد الرحمن العارف. وبقي بها نحو ستة أشهر من السنة المذكورة، ثم بنى زاويته الخاصة، بأعلى حومة المخفية على ضفة وادي الزيتون من فاس الأندلس، وانتقل إليها بأصحابه في التاريخ نفسه[8].

ويعني هذا أن ابن معن، وهو الوارث الروحي لشيخه عبد الرحمن العارف الفاسي، لم يتصدر قط للمشيخة في زاوية هذا الأخير، بل الأكيد أنه لم يجد السبيل إلى ذلك، وأن نزاعا ما حدث جراء هذا الأمر بين أتباع الطائفة الفاسية -المجذوبية-، وفيهم أبناء أبي المحاسن الفاسي وأحفاده. نقول هذا الكلام استنادا إلى رواية محمد المهدي الفاسي التي قال فيها بأن الشيخ ابن معن لما وصل إلى فاس عائدا من جبل العلم “.. وقع بين أصحاب الشيخ أبي محمد عبد الرحمن [العارف] بزاويته شنئان، فأتوا إليه وانجمعوا عليه، وقال لهم الشنئان الذي وقع بينكم من عندي جاءكم، وجلس معهم بزاوية شيخه سيدي [أبي المحاسن] يوسف الفاسي[9]، بحي المخفية، قبل أن ينتقل بهم إلى زاويته[10]، وكأنه كان ينتظر الظروف الملائمة للجلوس مكان شيخه عبد الرحمن العارف في زاوية القلقليين. لكن بعض الورثة  الشرعيين كان لهم رأي آخر، حيث صار كبيرهم شيخا فيها[11].

وهذا الشيخ هو العالم الشهير أبو محمد عبد القادر الفاسي بن أبي الحسن علي بن أبي المحاسن، وقد خول له ذلك أمران اثنان، هما اللذان كانا أيضا وراء تصدي أبي العباس أحمد الحافظ  للمشيخة في زاوية والده أبي المحاسن بالمخفية، بدلا من عمه عبد الرحمن العارف، ونعني بهما صلة القرابة بالشيخ الهالك، من جهة، ومنافسة “الوارث” في علو مقامه في العلم والعرفان، من جهة ثانية.

صحيح لم تُوْلي الـمصادر أهمية تذكر لدور القرابة في تـأهيل عبد القادر الفـاسـي للمشيخة، وركزت في المقابل على مكانته العلمية والصوفية، ورفعته إلى مرتبة أعلى بكثير من مرتبة أبي عـبد الله امحمد بن معن نفسه، رغم أن هذا الأخير هو “الوارث” لحال شيخهما، ولكننا نعتبـر دور الصلة العائلية، في هذا الأمر بالخصوص، أساسيا، ونعتبر غيره مكملا له ليس إلا.

ولا نعني بالقرابة كون عبد القادر بن علي الفاسي حفيدا لأبي المحاسن، أو كون عبد الرحمن العارف عما لأبيه، فحسب، وإنما نعني بها بالخصوص مصاهرة عبد القادر الفاسي نفسه، لعم أبيه هذا؛ لأنه كان زوجا لابنته[12]، مما جعله في مقام ابنه، سيما وأن  عبد الرحمن العارف خلف ابنا واحدا، لم يشتهر لا بالعلم ولا بالتصوف[13]. ومن ثمة، ليس بعيدا أن يكون عبد القادر الفاسي قد استغل هذا الارتباط بشيخه للاستقرار إلى جانبه في فاس بعيدا عن والديه وإخوانه في القصر الكبير[14]، ثم ليس بعيدا أن يكون عبد القادر الفاسي قد رأى في صلته بصهره مبررا مقبولا يؤهله لخلافته، في غياب أي  منافس من ذوي القربى، خصوصا وأنه بلغ في علوم الظاهر والباطن مقاما مشهودا له عليه بالتفوق[15]، مع العلم أنه لم يكن مؤهلا لخلافة والده أبي الحسن علي ابن أبي المحاسن في زاويته بالقـصر الكبـير باعـتـبـاره رابع أبـنـائـه..

يتبع في العدد المقبل..

————————————————-

1. هو أبو عبد الله امحمد بن مـحمد بن عبد الله بن معن الأندلسي السلف، المضري الأصل، الفاسي المولد والدار. عرف سلفه قديما بأولاد معن، نسبة إلى اسم أحد آبائـه، ثم نسبوا إلى عبد الله اسم أب آخر منهم، فعرفوا بأولاد عبد الله بن معن.

وقد تربـى هذا الرجل بحومة الحفارين ناحية باب الجيسة من عدوة فاس القروييـن، في أسرة تماثل عائلة أبي المحاسن شيخ الطريقة الفاسية – المجذوبية في أصلها الأندلسي ونسبهـا الفاسي، وكذا في ثرائها وسلوك أهلها. فقد كان والده محمد بن عبد الله بن معن من التجار أهل الأموال، ومن أصحاب الأملاك والعقارات في فاس وباديتها. والـمشهور أيضـا أنـه كان “.. في السخاء نظير والد الشيخ سيدي [أبي المحاسن] يوسف الفاسي”، ونظيره في تكسب الحلال، وفي “.. الحسب والمكانة والديانة والأمانة، زوارا للصالحيـن” . راجع:

  • م. المهدي الفاسي، ممتع الأسماع.. مصدر سابق ، ص: 145 – 146.
  • عبد السلام القادري، المقصد.. مصدر سابق، ص:6-7 و 15-17.
  • م. ابن عيشون الشراط، الروض.. مصدر سابق، ص: 130.

سليمان الحوات، الروضة المقصودة والحلل الممدودة في مآثر بني سودة، دراسة وتحقيق عبد العزيز تيلاني، رسالة جامعية في التاريخ، مرقونة،1991م، خزانة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ص: 416.

وقد انعكس أثر ذلك على حياة امحمد بن معن التعليمية . فحفظ القرآن وقـرأ ما تيسـر من الأمهات، وتصدى لطلب العلم وهو ما يزال صغيـرا، مثل شيخه أبي الـمحاسـن الـفاسـي، وحصل من العلم على نصيب. لكنه ترك ذلك، واشتغل بالتكسب، وأولع بالتنفل والعبادة ، وزيارة الصالحين (ممتع الأسماع، ص: 145، 148. الروض العطر، ص: 129)، ثم وجد في نفسه تعلقا بالمخفية وشيخ زاويتها أبي المحاسن “.. فذهب إليه، فعندما وقعت عينه على عينه غاب فيه وانجمع عليه، ونزل به جذب قوي وحال عظيم” ممتع الأسماع، ص: 145-146، تماما كما حصل لأبي المحاسن مع شيخه عبد الرحمن المجذوب، ولعبد الرحمن العارف مع أخيه أبي المحاسن. وصار منذئذ لا يفارق زاوية أبي المحاسن مواظبا على خدمة شيخها، حتى قيل إنه أنفق في جانب الشيخ والزاوية “.. جميع ما ورثـه من أبيه، وكان ورث منه مالا عريضا جدا” (المصدر نفسه)، وذلك خلال السنوات الأربع التي قضاها في صحبته قبل (عام 1013هـ/1604م)، تاريخ وفاة أبي المحاسن. “.. والشيخ في ذلك يربيه ويرقيه” في معارج السلوك (ممتع الأسماع، ص: 147. المقصد، ص: 10: الروض، ص: 132 ،133). ويعني هذا أن ابن معن جمع في تصوفه بين الجذب أو ما يعرف بالولادة الروحانية، وبين السلوك أو ما يسمى بالتربية والتهذيب ، وأن جذبه كان أسبق من سلوكه. وتعد هذه الازدواجية، كما هو معروف، أهم معالم السند في الطريقة الفاسيةـ المجذوبية. ويبدو أن ابن معن بلغ في جذبه وسلوكه مقاما عاليا، جعل البعض يظن أنه الوارث لشيخه أبي المحاسن، ممتع الأسماع، ص: 147. الروض، ص: 133.

2. انظر الهامش السابق.

3. ع. السلام القادري، المقصد.. مصدر سابق، ص: 10.

4. المصدر نفسه، ص: 10. وراجع أيضا: م. بن جعفر الكتاني، سلوة الأنفاس.. مصدر سابق،ج.2، ص: 28.

5. محمد المهدي الفاسي، ممتع الأسماع.. مصدر سابق، ص: 148-149.

6. الإحالة نفسها.

7. نفسها.

8. محمد المهدي الفاسي، ممتع الأسماع.. مصدر سابق، ص: 149.

  • ع. السلام القادري، المقصد.. مصدر سابق، ص: 11.

9. محمد المهدي الفاسي، ممتع الأسماع.. مصدر سابق، ص: 148-149.

  • م. بن عيشون الشراط، الروض.. مصدر سابق، ص: 136.

10. محمد المهدي الفاسي، ممتع الأسماع.. مصدر سابق، ص: 149.

  • ع. السلام القادري، المقصد.. مصدر سابق، ص: 11.

11. نقصد هنا الشيخ الشهير أبا السعود عبد القادر بن علي الفاسي، ونعتبره كبيرهم؛ لأنه هو الذي تولى المشيخة في الزاوية.

12. يلاحظ أن المصادر التي أطلعنا عليها بقلم آل عبد القادر الفاسي عموما تغاضت عن هذا الأمر. والإشارة المعتمدة نقلناها من طرة واردة في نسخ من نشر المثاني لمحمد بن الطيب القادري. وقد وضعها صاحبها على هامش الصراع حول الزعامة في الطائفة الفاسية، مما يعني، ولاشك، أن واضعها يقصد صلتها بهذا الأمر، ويعني بالتالي أن واضعها خبير بخبايا الأمور في العائلة الفاسية.

       راجع: م. بن الطيب القادري، نشر المثاني.. مصدر سابق، ج: 2، ص: 276، هامش 11.

13. يسمى هذا الابن أحمد: ولد في 23 ربيع الأول 1014هـ/1605م، واستوطن فاسا وبها توفي في 5 ذي القعدة 1090هـ/1679م. ويحلى في أفضل الأحوال “بالمرابط الوجيه” التقاط، 216 / ابتهاج القلوب.. ص: 512، مما يفيد في القول بأنه لم يكن في مقام أهله علــما أو حالا، حتى لقد أغفلت المصادر التي ترجمت لوالده ذكره، مثل نشر المثاني. وتوفي دون عقب .

14. مما يذكره أهل عبد القادر الفاسي على لسانه في هذا الصدد كرامة تقول إنه “خرج من فاس قاصدا لوطنه [بالقصر الكبير]، فلما انفصل عنها بنحو نصف مرحلة خرج عليه اللصوص وعلى رفقته واستلبوا ما عندهم، فرجع لفاس، فقال له عم أبيه عبد الرحمن العارف هذه إشارة لك في استيطان فاس، وعدم الخروج منها، فعمل بتلك الإشارة وتزوج بفاس ملازما لعم أبيه المذكور..” راجع : م. بن جعفر الكتاني، سلوة الأنفاس.. مصدر سابق، ج: 1، ص: 310.

15. تتلمذ عبد القادر الفاسي، في بدايته، على والده، مقدم الحزب الفاسي المجذوبي بالقــصر الكبـير، ثم انتـقل إلى فـاس (سنة 1025هـ/1616م)، وأخذ بها عن جماعة من العلماء والصوفية، في مقدمتهم: عم أبيه عبد الرحمن العارف، وأبو القاسم بن أبي النعيم الغساني، وأبو مالك عبد الواحد بن عاشر، وأبو العباس المقري، وغيرهم. راجع:

  • م. بن الطيب القادري ، نشر المثاني.. مصدر سابق، ج: 2، ص: 270-273.
  • م. بن جعفر الكتاني ، سلوة الأنفاس.. مصدر سابق، ج: 1، ص: 309-310.

أرسل تعليق