التفاعل بين الكون والنفس
تؤكد معاينة التفاعلات الجارية بين الكون والإنسان، وجود ترابط قوي بين ما يقع في الكون من تقلبات وانعكاساتها على النفس، والتي تتأثر بكل ما يحيط بها فتنشأ بينها وبينه علاقة تفاعلية تحدثت عنها علوم مختلفة وحاولت تسليط الضوء على بعض جوانبها، وقد عمل القرآن الكريم على توجيه النفس للاستفادة من النظر في آيات الآفاق لإدراك حقائق الإيمان التي هي مدار مسؤوليته في هذه الحياة، فما يدعو إلى التفكر فيها إلا بقصد التنبيه على الغاية الأولى من خلقها، وهي أنها دليل على كمال الله وجلاله وجماله، ودليل على مخلوقية الإنسان لله، وتوقف فلاحه وصلاحه وسعادته على معرفته وعبادته وتقوية العلاقة به سبحانه. ويطرد هذا المقصد في جميع آيات الآفاق دون استثناء، معلنا وحدة موضوع الرسالة السماوية ومحورتها حول قضية الإنسان الرئيسية؛ وهي تفاعله مع ما حوله بعلم وفكر يقودانه للتعرف على الغاية الحقيقية لوجوده.” اَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْاَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ” [سورة الاَحقاف، الآية:33]، فسواء تحدث القرآن عن السماوات والأرض كما في هذه الآية أو عن الشمس وحرها أو القمر ونوره، “اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْاَمْرَ يُفَصِّلُ الْاَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ” [سورة الرعد، الآية: 2] أو عن المطر وما ينشأ عنه من نماء ورخاء، “وَتَرَى الْاَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ” [سورة الحج، الآية: 5-6]، فإن الغرض واحد هو إعلام الإنسان بأنه خلق ليبتلى بالوحي من الله وأنه بعد الموت سوف يبعث لتعرض عليه أعماله، فيتاب بنعيم الجنة أو يعاقب بسعير جهنم.
وتأثير محتويات الكون قد يأخذ منحى آخر غير هذا الذي امتدحه القرآن ووجه إليه، فيقر الشخص بوحدانية الخالق، لكنه لا يكترث لمراده من خلق الحياة والإنسان، وقد يمضي في تسخير خيرات الكون وعطاءاته في الاستزادة من المتاع المادي والافتتان به وحصر الهم في طلبه والظفر به وحده دون أي شيء خارج إطار الوجود الدنيوي.
ويمكن القول بأن التأثير الأبرز والأقوى للكون في قلب الإنسان، يظل هو انشغاله بما يتحصل له من وراء استثمار منافعه في شقها المادي، والذهول المطبق عن أي فائدة روحية أو عظات ذات أبعاد إيمانية، لذلك تنزلت الرسالات السماوية لإخراج الإنسان عن غفلته ومحدودية فكره وتفكره.”فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى [سورة النجم، الآية: 28- 29].
إن غلبة التفاعل المادي مع الكون في حياة البشر بات موهما بحكم المعاينة والممارسة الكثيفة، وكأنه تمام الرشد ونهاية المبتغى في فلسفات ومناهج أرضية عدة توالت منذ القدم، وانقلبت إلى تأليه المادة وازدراء الروح واعتبار ذلك سبيلا نحو العقلانية والتطور والرقي الإنساني، وما نحت الأصنام من أحجار وخشب إلا تفاعل آخر مع مادية الكون وانحياز سافر لها رغم ما قد يقترن به من اعتراف بالله خالقا للكون والكائنات.”أمَّن مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْاَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ” [سورة النمل، الآية: 59]، فهم يعدلون عما تدل عليه هذه الآيات من دلالات هادية إلى الله وحقه المبين، إلى الانغماس في مادية الكون والميل عن روحانيته.
ولعل الاستنتاج الأول الذي يتهيأ من هذا الواقع هو خضوع تأثيرات الكون في النفس سواء من حيث الكم أو من حيث الكيف إلى مدى استعداد القلب وطبيعة توجهه بصدد التفسيرات المتوفرة لديه حول ماهية الدنيا ومآلها وانتقاء واحد منها ومحاولة فهم الحياة في إطاره.
ومن جهة أخرى أفادنا القرآن وجود تأثير من الإنسان في الكون الواسع والبيئة القريبة، تنوعت مظاهره وتفاوتت درجاته، فكان داود عليه السلام إذا ذكر الله رددت معه الجبال، “وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ” [سورة سبأ، الآية:9]، وتحزن السموات والأرض على اختفاء شعوب وقبائل مؤمنة ولا تحزن لذهاب أخرى زائغة عن هدي الله مثل قوم فرعون!، كما هو واضح من هذه الآية: “كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْاََرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ” [سورة الدخان، الآية: 24-28]. ويتبادر هذا التفاعل من إشارة أخرى وهي قوله تعالى: “وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْاَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا” [سورة مريم/88-91]، إذن يمكن استنتاج ابتهاج الكون وفرح مختلف كائناته ومشمولاته بفعل المؤمن الصالح وتضايقه وحزنه من فسوق الكافرين وانحراف المبطلين.
ومن الأحاديث التي تضمنت هذا المعنى “مر النبي صلى الله عليه وسلم على زرع يهتز، فسأل عنه، فقالوا: رجل زرع أرضا بغير إذن صاحبها، فأمره أن يردها ويأخذ نفقته” [1].
وعن سليمان بن بلال “كان مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم مسقوفاً على جذوع من نخل فكان النبي إذا خطب يقوم إلى جذعٍ منها فلما صنع له المنبر فكان عليه سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار حتى جاء النبي فوضع يده عليه فسكن” [2].
والأخبار بهذه الحقيقة كثيرة يقوي بعضها بعضا، وفيها إلى جانب ما تفيده آيات قرآنية دليل على وجود ارتباط محكم بين الكون والنفس البشرية وتبادل التأثير والتأثر باستمرار، كما يبرز من خلالها احتفال الكون باستخلاف الإنسان في الأرض، وشهادته على يحصل في إطارها من وفاء وجفاء، وهو ما يسلط أضواء كاشفة لأبعاد مسؤولية النفس وحركية القلب باعتباره مركزا لكل التقلبات التي يعرفها الكون المنظور والكون غير المنظور. وللحديث بقية إن شاء الله والحمد لله رب العالمين.
———–
1. مصنف ابن أبي شيبة.
2. الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم – (ج 2 / ص 273)
أرسل تعليق