الاختلاف بين التصور والممارسة (1/2)
إن التأمل في منظومة القيم الإسلامية يفضي بصاحبه إلى حقيقة هي أن هذه المنظومة شاملة، بحيث تستغرق الحياة الإنسانية كلها، الفردية منها والجماعية، وتتوزع على كل مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية،لتوجه السلوك الإنساني في تلك المجالات ليحسن أداء رسالته في كل المواقع التي يمارس فيها أنشطته، ومن ثم احتلت مكانة متقدمة بين سائر القيم، لكن عامل الزمن وتدافع الحضارات نحت من هذه القيم، وغير مفاهيمها نظريا، وانعكس ذلك على السلوك في مجال العلاقات الإنسانية خاصة، وبالتالي لم يعد تنزيلها وترجمتها، إلى نماذج حية من السلوك الراقي، سالما من تلك المؤثرات، فأخذت القيم مفاهيم جديدة، خضعت لموجة التطور الذي طال العناصر المادية من الحياة، فأصبحت الحرية الشخصية تعني التسيب بدل المسؤولية، والمساواة تعني المماثلة في الحقوق دون الواجبات، والمثلية في إشباع الغرائز، بدل السمو بها إلى التكامل للقيام بواجب الخلافة على الأرض، والعدل يعني المطالبة بالحقوق دون الوفاء بالالتزامات تجاه الآخرين، وهكذا اندرست بعض المفاهيم وتوارى جزء كبير من حقائقها، وتغير سلوك الناس تبعا لذلك، ومن أبرز القيم التي امتد إليها هذا التشويش على مستوى المفهوم والتصور قيمة الاختلاف، وسأحاول مقاربة الموضوع من خلال النقط الآتية: مفهومه، أسبابه، أنواعه، آدابه، وكيفية تدبيره.
مفهوم الاختلاف: تعددت تعاريف الاختلاف في اللغة، افتعال مصدر اختلف، ضد اتفق، لكنها تتمحور حول معاني التنازع والتباين أو التفاوت في الاستعدادات الفطرية بين الناس بدليل قوله تعالى: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً” [سورة هود، الآية: 118]، ومنه الحديث: “سووا صفوفكم ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم” أخرجه الطيالسي، أي إذا تقدم بعضكم على بعض في الصفوف تأثرت قلوبكم، ونشأ بينكم اختلاف في الألفة والمودة..
أما الخلاف فيراد به المغايرة في القول أو الرأي أو الموقف، لاختلاف في الوجهة والغاية وإن وقع الاتفاق في الوسائل.
والاختلاف بذلك المفهوم أمر فطري في الناس يغذيه تباين الاستعدادات، وتعدد الحاجات والرغبة الجامحة إلى إشباعها، وهناك أسباب أخرى أدت إلى نشوء ظاهرة الاختلاف منها:
أ. طبيعة اللغة: فإن نصوص القرآن والسُّنَّة، جاءت على وفق ما تقتضيه اللغة في المفردات والتراكيب، ففيها اللفظ المشترك الذي يحتمل أكثر من معنى، وفيها ما يحتمل الحقيقة والمجاز، والعام والخاص، والمطلق والمقيد؛
ب. طبيعة البشر: فقد خلقهم الله مختلفين، فكل إنسان له شخصيته المستقلة، وتفكيره المتميز، وميوله الخاصة، ومن العبث صب الناس في قالب واحد، ومحو كل اختلاف بينهم، فهذا أمر مخالف للفطرة التي فطر الله عليها الناس؛
ج. طبيعة الكون والحياة: فالكون الذي نعيش في جزء صغير منه، خلقه الله سبحانه مختلف الأنواع والصور والألوان، وهذا الاختلاف ليس اختلاف تضارب وتناقض بل هو اختلاف تنوع، وكذلك طبيعة الحياة، فهي أيضا تختلف وتتغير بحسب مؤثرات متعددة، في المكان والزمان.. فالخلاف سنة كونية اقتضتها الحكمة الإلهية، قال الله عز وجل : “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً” [سورة هود، الآية: 118].
والاختلاف مع كونه ضرورة، فهو رحمة بالأمة وتوسعة عليها، ولهذا اجتهد الصحابة واختلفوا في أمور جزئية كثيرة، ولم يضيقوا ذرعا بذلك، وسار من بعدهم على النهج نفسه تأليفا للقلوب ورفعا للحرج على الأمة.
يتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى
أرسل تعليق