Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

الأسرة والحياة

الحياة آمال وآلام ومحبة، ولكن متى نحس بمعنى الحياة؟ يوم نقاسم الآخرين أرزاءهم ومسراتهم، ونبني معهم جسرا من التعارف والتواصل، ونهتم بمشاكلهم ونستعرض وإياهم نمط الحياة الطبيعية التي تقودنا جميعا إلى الالتزام بتعاليم الدين الحنيف الذي جاء للبشرية بسعادة الدنيا والآخرة، والحياة تُعلم العقلاء التأهيل للعمل والكسب، وإرساء حق العاجز والقادر، وبالفقه الإنساني يميز الزيف من الحقائق، والصدق خير والكذب ضلالة، والتنكر للإحسان غدر وخيانة.

ولتيسير مجرى الحياة لابد من توفر أرضية صالحة، وأن يكون الإنسان متوافقا مع البيئة والزمان في حاضره، مع العلم أن ما فيه الإنسان متغير متبدل، ولا يلبث أن يدركه حتى يكون قد مضى، والحياة توجيه ونصح، وثورة وغضب، وآمل ويأس، وللباطل في الحياة صولة، حتى يقر الحق في قرارها، ويتم من العدل رفع الظلم بما أمر الله به، والحياة ما لم يكن الهدف منها على ثلاثة أمور فهي عبث؛ لأنها هبة الله الكبرى، وهي جوهر النجاح والفشل، ومفتاح النصر أو الهزيمة، وشر هزائمنا هذه الأمية الخالدة من الجهل، الذي تجثم على صدور الملايين من أبنائنا وبناتنا، وهذا العجز البوار من التقصير، والعمل المبتور، والتخطيط المشلول، يعد حالة غير مرضية تستدعي الدراسة والعلاج؛ لأننا ما زلنا نعيش داخل قواقع من التخلف، فإذا خرجنا من هذه القواقع لنرى الحياة وحقيقتها ذُهلنا وذُعرنا مما حققه أهل الشرق والغرب للأجيال الحاضرة والآتية، وسارعنا بالعودة إلى هذه القواقع لنختفي بها من حقائق الوجود الساخرة، وعليه أفلا يحق فينا قول الشاعر:

ومـــن دعــــا النـــــــاس إلى ذمــــــه          ذمـــــوه بالحـــــق وبــــالبـــــاطــــــل

وحتى لا يختلط الحابل بالنابل: فالإسلام يسير مع الحياة تنظيما ليستفيد منها الإنسان في واقعه ومآله، وحتى لا تضيع الإنسانية في متاهات الحياة الواهمة، تلطم الخدود وتندب الحظوظ، يتخبطون في دروبها المظلمة، والإنسان في هذه الحياة لا يخرج عن أن يكون والدا أو مولودا، وللمولود حقوق لا تعرف الضعف ولا تعرف التخاذل، والأسرة الحازمة هي التي لا تجعل الحياة تمر بها دون أن تأخذ منها العظة والعبرة؟ وهي تعلم أن شأنها في الحياة واتجاهها فيها دوما قول الشاعر:

إنمـــــــــــا خلــــــقـــــــت لاحيـــــــــا          حتـــــــــى يشـــــــاء القضــــــــــــــاء

فـــــــــإن ضـــــاقت الأرض دونــــــــي          فمـــــــــا تضــــــــــــــــيق السمـــــاء

وعجلة الحياة تدور يطلع فجر وتغرب شمس، والناس يرون ما تتعرض له الأوطان بما يعوق سيرها، ويؤخر تقدمها، فيتولد صراع حاد تبعا لتفاوت الأطماع وحب الذات، مما يولد نزاعا وشقاقا يجعل الحياة جحيما لا يطاق، ورغم الطعنات الدامية التي تجرح الأجساد؛ فإنها ولله المنة وله الحمد لا تمزق القلوب، فمادامت القلوب تنبض بالحياة، فإن الكلوم يمكن أن تداوى؛ لأن الإيمان بالله في ركابه يسير النصر، قال تعالى: “وكان حقا علينا نصر المومنين” [الروم، 46].

هذا هـــــو الوعد الصـــــريح أتـــت به          آي الكـــــتاب ومــــا بهــــــا إخفــــــاء

وما أكثر ما تفعل الحياة في الإنسان، وإن بعض ما تفعله يفهمه الإنسان، والكثير الأكثر لا يفهمه، والهارب من الحياة إلى المجهول لينسى أحزانه من المجهول الذي اغتال أحباءه الأميين، ولكن الأمية التي ملأت حياته حسرات وآلاما قد تفجر جوانب النبوغ فيه وفي الأجيال من البنين والبنات، فإذا بالكل مبدعا في مضمار الحياة، والحياة بحر بلا ساحل، مهما تقدم الإنسان في بحرها الخضم المتلاطم إلا وأحس بأنه ما يزال يدرج في الساحل آو قريبا منه، وسفن الحياة هي العلم والعمل، ومن استسلم للتواكل والتخاذل خضع لقيود الاستسلام واليأس، والمسلم لا ييأس من الحياة، فما عليه إلا أن يتقدم بالعلم والمعرفة والعمل إلى الأمام، وإذا التفت إلى الوراء بعدت الشقة بينه وبين السفن الماخرة بسلاح العلم الحديث تشاهد من هذا الجمال الكوني الذي يقوده إلى الإيمان بالخالق سبحانه مصداقا لقوله تعالى: “وفي أنفسكم أفلا تبصرون” [الذاريات، 21].

وخير الأسر هي من تجدد دماء أفرادها حتى لا تضعف نتيجة الجمود، فهي تقدم لأجيالها أجزل العطاء وتوظيفها كل الإمكانيات إلى حد ما في الحياة مما يُمكن المجتمع الإسلامي من السيطرة على ساحة الإبداع في الحياة الإنسانية الواعية، انطلاقا من الفهم الملتزم لتأصيل البناء المحكم للقضايا الإنسانية النبيلة المشتركة، وفي نفس الوقت تطمح مشرئبة بأفلاذ أكبادها باتجاه الجديد الحي، في أفق يستوعب الدلالات المستمدة من الجذر التاريخي نسقا متصاعدا يتحقق في الانسجام والتآلف بين الواقع والمثال المرتقب كسمة بارزة وجبلة تجري في عروق الإنسان مجرى الدم حتى تظل اللحمة الإنسانية ملازمة لمسيرته الحياتية تتقوى أصولها بالانتماء الأصيل، والعمل الصادق الذي يصب في عروق مستقبل الإنسانية الواعد، وترتيب الأولويات على الوجه الأمثل والأفضل، مما يجمع الشتات، ويوحد الهدف قال تعالى: “ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم” [محمد، 32]

وأسعد أسرة هي تلك التي تفتح الآمال، وتعرف كيف تمد خيال الأجيال الناشئة والصاعدة إلى أعلى مراتب الرقي المزدهر، ليرتقي فكرها المصون، ولتنوع معارفها المتكاملة، لمسايرة مستجدات الأحداث الاجتماعية والثقافية.. بهمة لا تعرف الكلال، وتأخذ بيدها حتى تنهض إذا أصابها التوقف، بحكمة العاقل البصير، وذلك من أجل النهوض بالواقع، والإقبال على الحياة السعيدة بكنه الهمة العالية واستشراف معالم الحياة المستقبلية، وتحصيل التمازج بين الإنسان وأخيه الإنسان في بوتقة الإسلام الذي يُشجع على التلاقح الفكري لمختلف الحضارات، ومخاطبة الناس بتناغم تتساوق معه أمانة العلم والتكليف بما يحقق عمارة الأرض والوظيفة الاجتماعية من انجازات عظيمة موفقة بهدي الوحي الإلهي لتحقيق حياة أفضل، من غير طغيان ولا تجبر بإخلاص النية ومراقبة الله تعالى عملا بقول سبحانه: “ومن اَحسن دينا ممن اَسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا” [النساء، 124]

ووسط دوامة الهموم الإنسانية التي تزداد كما وكيفا كل يوم مع الزخم المتلاحق من الجديد المعاصر من الأمواج العاتية التي تحجب الشمس عن الأمم الضعيفة الملقية بظلالها الكثيفة، ولا تسمح لها بفرصة كاملة للنمو بل تمتص منها الماء، ولكن المقارنة في هذا العصر شبه منعدمة بين شعوب متعلمة وشعوب تفشت فيها براثن الأمية، ومع ذلك فالأسر الطموحة بجهادها المتواصل، جهاد الأحياء للحياة في نفحة من عطر يلامس شذاها الأرواح، وإن شئت فهي خفقان في القلوب وزفرات في الأفئدة ينشر لواءها الإسلام الحنيف في دماء الأجيال الصاعدة لتتحرك لتذكر الأمة بكل ما يحمله التاريخ العريق من منارات للعلم والدين وبما حملت الأمة من أعباء وحفظت من تراث، وكانت لها بالعلم والإسلام صولة ودولة وخلافة وحضارة ومنزلة كبيرة، من العظمة والإجلال، ونفوذ الكلمة، يوم كانت عواصم الإسلام فيها كلمة الله أكبر مجلجلة فوق سامقات مآذنها، فروع زاكية من دوحة عظيمة وجامعاتها روافد لذلك النهر الكبير يذكرني بقول الشاعر:

وقفت في معرض الـــــدنيا أرى قدري          مصــــــــورا وحيـــــــاة النــــاس أقـدار

شاهدت طاحــــونة الأعمـــــار دائـــرة          ترتاع منها لمـــــــرأ الهــــــول أبصــــار

تطوي الخـــــلائق في دولابهـــا وبــها          من الأنـــــام غبــــــــار الدهــــــر دوار

وتلك واحة عمري فهــــــــي مجدبـــة          أودى بها في خــــــريف العمر إعصــار

وعليه فالأسرة هي الأداة اللازمة لصقل المواهب والقدرات الناشئة بالتدريج في العالم الواقعي الذي تعيش فيه، ولتكون الحياة جميلة فجمالها يقتضي أن يكون لنا أسر يصححون إدراكنا للحياة، ويُرهفون أذواقنا للجمال، ويُهيؤون نفوسنا للشرف في مضمار السيادة والسبق مع فيض الحياة، ولن تكون سيادة بغير حياة، ويوم نملك زمام الحياة نفعل ما يُثلج صدور الناس لفقه لغة الحياة استشراف مستقبلها الزاهر..

أرسل تعليق