Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

ابن القطان – المشيخة (60)

هذا هو الجزء الستون من هذه المقالات عن ابن القطان، وهو تتميم لما سبق من الكلام عن مشيخته. وتلك سلسلة أعرض فيها من وقفت له منهم على رواية جملة من دواوين العلم، أو ذُكر له شيء من التآليف فيه، ومن جملة أغراضي من ذلك: استعمالُه بعد الفراغ من جمعه في مناقشة كلام قيل عن ابن القطان، من كونه أخذ الحديث مطالعة. ولست ألتزم هنا بنسق معين في عرض هذه المشيخة، وإنما أجلب منهم من آنَسُ من نفسي أني استفرغت وسعا في جمع مادة ترجمته.

إبراهيم بن محمد بن فارس أبو إسحاق الشاعر الكانمي (تـ 608 أو 609هـ)

[القسم الخامس]

هذا القسم الخامس صلةٌ للبحث المتعلق بقضية جعل الكانمي لقبا لشاعرين تعاصرا، وقد مضت حكايتها مُفَصلةً في القسم الرابع، وهذا أوان الوفاء بما وعدتُ به آخرَ القسم الرابع من تفصيل القول في ترجيح كون الترجمتين لرجل واحد، وكون التفريقِ، وجعلِ الشاعر الواحد رَجلين وَهَماً، مع سياق أدلتي التي اعتمدت فيها على ذلك.

سبق أن أشرت في القسم الرابع من هذا المقال إلى أن الصفدي كان ذا حدس قوي جدا، حيث جمع مادة ترجمة الكانمي في محل واحد[1]، ولم يفرقها على ترجمتين كما صنع الذهبي[2] الذي هو عمدة الصفدي، ثم أخبر عن قوة هذا الحدس بكونه يظن أن أبا إسحاق الكانمي: إبراهيم بن يعقوب الأسود النحوي الشاعر، هو: ابن شاكلة الذي ترجمه ابن الأبار في تحفة القادم، فقال فيه: إبراهيم بن محمد بن شاكلة أبو إسحاق السلمي الذكواني الصعيدي الأسود، سكن مراكش ودخل الأندلس. وقد سبق نقل نصه في ذلك مستوفى.

وهذا الذي ذكره الصفدي غلبةَ ظنٍ، هو الذي تميل النفس إليه، خصوصا أن حذاق المؤرخين الذين قرب عهدهم من الكانمي، لم يذكروا إلا رجلا واحدا، هذا مع قرب العصر، والانتساب إلى الأندلس، والمغرب؛ والبلدية مع قرب العصر أمكن لصاحبهما من دقيق المعرفة بأحوال المترجَمين.

 ولو وجد شاعران متعاصران، كل منهما أسودُ طارئ على مراكش، وكل منهما “إبراهيم” اسمُه، و“أبو إسحاق” كُنْيتُه، مع كونهما من ذوي الإجادة، والنظم البارع، لما تُرك نقل ذلك، لما فيه من الطرافة، ولكون هذا الاتفاق العجيب نادرَ الوقوع جدا، ولجُعِلَت حالُ الشاعرين -لو وجدا- أمثولة، ولملأ ذكرهما كتب الأدب؛ أمَا والأمر بخلاف ذلك، فما وقع عند الذهبي وَهَمٌ من أوهام التفريق، وهو عدّ واحدٍ رجلين.

ولهذا الوهم في نظري منشأ قديم؛ فإن ابن الأبار -وهو أقدم واحد وقفت عليه ترجَمَ الكانمي- ذكره في تحفة القادم، وفي التكملة لكتاب الصلة، فقال فيه: “إبراهيمُ بنُ محمد بن فارسِ بن شَاكِلةَ بن عَمْرِو بن عبد الله السُّلَميُّ الذَّكْوانيُّ.. يُكنى أبا إسحاق“، وليس في عمود نسبه من اسمه “يعقوب”، وأول من وقفت عليه سمى أباه “يعقوب” لا “محمدا” هو ابن الشعار، ولعل ذلك سبق قلم، أو انتقال نظر، خصوصا أنه جاء في غضون هذه الترجمة نَقْلُه عن ابن حمويه الذي لقي الكانمي، وعَلَّق عنه بعض ما سمع من شعره، ومنه قوله: “يمدح أبا إسحاق إبراهيم بن يعقوب، وقد انقطع إليه، ولازمه حتى حسده قوم من أصحابه على ذلك:

مَا بَعْدَ بَاب أَبِي إِسْحَاقَ منزلَةٌ      يَسْمُو إِلَيْهَا فَتًى مِثْلي ولاَ شَرَفُ[3]

فلعل النظر انتقل من صدر ترجمة الكانمي إلى هذا الموضع وهو”يمدح أبا إسحاق إبراهيم بن يعقوب”، فَكُتِبَ في موضع أبي “الكانمي”يعقوب” بدل “محمد“.

ثم إن الناس تبعوا ابن الشعار في تسميتهم أبا أبي إسحاق الكانمي “يعقوبا” منهم: ابن خلكان، والذهبي في أحد موضعي الترجمة[5]، والصفدي[6]، والمقريزي[7]، والمقري[8]، والناصري[9]، وابن إبراهيم المراكشي في أحد موضعي الترجمة  أيضا[10]، واحتاط ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار فحذف فيما نقله عن ابن عبد الملك، اسم أبي الشاعر الكانمي، فقال: “أبو إسحاق إبراهيم الكانمي“.

وتنضاف إلى غلبة ظن الصفدي في كون مادة الترجمتين لشاعر واحد، صنيعُ العلامة التعارجي حيث أورد الكلام المشهور لياقوت الحموي في الكانمي في الترجمتين معا اللتين ذكرهما في كتابه الإعلام، مما يلمع إلى أن أمر الكانمي لم يتحرر عنده كما ينبغي، خصوصا مع تلفيقه فيها بين كلام الذهبي-الذي جعل مادة الترجمة لرجلين-كلام ابن الأبار- الذي جعل الكانمي الشاعر الوارد على مراكش في آخر القرن السادس رجلا واحداً.

ويزاد على ذلك أيضا توقف الأستاذ الدكتور المحقق السيد إحسان عباس في جعل الكانمي رجلين[11]، وهو توقف يدل على حدس علمي قوي، وخبرة بتراجم الرجال كبيرة، كما هو معروف من حال الدكتور إحسان عباس.

ويظهر لي بعد كل ما سبق أن الكانمي رجل واحد، وهو الذي يشير إليه صنيع ابن الأبار، كما يظهر لي أيضا أن ما ذكره ابن الأبار في عمود نسب الكانمي أولى بالاعتماد لإتقانه ومعرفته، وقربه من عهد المترجم قربَ زمانٍ ومكانٍ، إذ أدرك من أدركه، ونقل عمن عرفه، قد جاء التصريح من بذلك في التكملة حيث قال: “كان عالما بالآداب، شاعرا مفلقا، مع التيقظ، والفهم، وصدق التأله، سمعت شيوخنا يصفونه بذلك ويُجملون الثناء عليه[12].

وسأورد -إن شاء الله تعالى- فيما بقي من أقسام هذا المقال ما نُقل عن الكانمي مما يُعدُّ من غرائب الحكايات، مع نبذ من شعره الدالة على علو كعبه في النظم.

يتبع في العدد المقبل..

————————————————

1. الوافي بالوفيات، 6/109.

2. حيث أورد في “تاريخ الإسلام” الأولى في: 13/188، والثانية في: 13/257-258.

3. قلائد الجمان في فرائد شعراء هذا الزمان، 1/85.

4. وفيات الأعيان، 7/14، – هؤلاء الثلاثة: ابن خلكان، والمقري، والناصري -لم يفردوا الكانمي بترجمة، وإنما ذكروه في غضون كلام-.

5. تاريخ الإسلام، 13/258.

6. الوافي بالوفيات، 6/109.

7. المقفى الكبير، 1/317

8. نفح الطيب، 4/380 .

9. الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، 5/103.

10. الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، 1/168-169.

11. سبق نقل هذا التوقف عن الدكتور إحسان عباس في القسم الرابع من هذه المقالات، ونص ذلك أن ابن خلكان ذكر في ترجمة يعقوب المنصور الموحدي للكانمي بيتين صدرهما بقوله: “ودخل الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الكانمي الأسود الشاعر على الأمير يعقوب” فذكرهما، وعلق على ذلك الدكتور عباس بقوله: “وقد ترجم ابن الأبار (التكملة: 177) لكانمي اسمه: إبراهيم بن محمد وكان شاعرا، فلا أدري أهو هذا المذكور هنا أم غيره” الحاشية رقم: 1: وفيات الأعيان7/15.

12. التكملة لكتاب الصلة 1/299، ونقله المقريزي في المقفى الكبير دون عزو، وبتصرف يسير 1/317.

أرسل تعليق