إن لم تحسن ظنك به لأجل حسن وصفه، فحسّن ظنّك به لحسن معاملته معك
من الحَكم العطَائية نسبة إلى العالم الفقيه والصوفي الجليل سيدي أحمد بن عطاء الله السكندري (1260-1309هـ). كتب الله عز وجل لها القبول عند عامة الناس وخاصتهم، وهي جواهر فريدة في أصول الأخلاق والسلوك ودرر تليدة في قواعد السير إلى ملك الملوك، لها من الشروح ما يند عن الحصر والعد، مغربا ومشرقا، وترجمت إلى عدة لغات.
في هذه الحكمة العطائية السَّنيّة ثلاث فوائد مشرقات:
أولاها: أن إحسان الظن بالله جل شأنه وجب أن يكون ابتداء لأجل حسن وصفه، وهو أمر نجده ساريا في كتاب الله تعالى، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذ قد عرف القرآن المجيد بالمتكلم به أزلا، وبالموحى إليه به خاتم رسله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، فبين تعالى أسماءه الحسنى وصفاته العلى، وبيّن محابّه ومكارهَه، وأعلم تعالى بتحريم الظلم على نفسه، وأنه تعالى لا يرضى لعباده الكفر وإن شكروا يرضه لهم، كما بين أنه سبحانه يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر، وأنه يجزي المحسنين ويوفّيهم أجرهم بغير حساب، إذ هو سبحانه غفور شكور، إن تقرب إليه العبد ذراعا تقرب إليه باعا، وإن جاءه مشيا أتاه سبحانه هرولة، وأنه عز وجل، أفرحُ بتوبة عبده من رجل كان في فلاة وكانت معه ناقة له، عليها زاده وطعامه وشرابه فأَبِقت، وأيقن بالهلاك فقال أنام تحت هذه الشجرة حتى أموت، فلما استيقظ وجدها قائمة عند رأسه فقال اللهمّ أنت عبدي وأنا ربّك ! أخطأ من شدة الفرح… وبيّن أنه سبحانه يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف الضر، وأنه ودود لطيف، كريم وهاب رزاق… فكيف لا يحسن العبد الظن بمن هذه أوصافه؟ ! ويتق بإحسان من هذه خصاله؟! غير أن هذه المعاني لا يمكن أن تثمر في قلب العبد ما لم يزرع فيه بذورها بالتعرف عليها وتعلمها، ثم يسقيها بعد ذلك، ببذل المجهود لتفهّمها، وباستدامة ذكر من اتصف بها ودعوته تعالى بها، مصداقا لقوله سبحانه: “قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى” [سورة الإسراء/الآية:110]، وقوله: “ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها. وذروا الذين يلحدون في أسمائه. سيجزون ما كانوا يعملون” [سورة الأعراف/الآية:180].
ثانية الفوائد: أن من فاته تحسين ظنه بالله عز وجل لصفاته العلى التي تستوجب لزوما الظن الحسن، فلينظر إذ ذاك إلى كونه هو مجموعة نعم سابحة وسط مجموعة نعم، بمنّ الله تعالى وفضله. فهو سبحانه الذي خلق الإنسان وسوّاه، وشق سمعه وبصره وفمه، أسمعه بعظم، وبصّره بشحم، وأنطقه بلحم، ودرأه في هذه الأرض القابلة لاستضافته، الصّابرة على خرَقه وإسرافه وإفساده، وبعد كل ذلك أنزل له الوحي متضمنا السنن والقوانين والنواميس المعززة لصلاحه في نفسه وفي محيطه، فقال عز من قائل: “وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة”[سورة البقرة/ الآية: 195]. وقوله عز وجل:” ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا” [سورة الأعراف/ الآية: 56].
حتى أولئك منا معشر بني آدم الذين يمتحنون ببلاءات وأمراض وعلل، فإن الله تعالى قد جعل في طيّ كلّ ذلك إحسانا ومننا ودلّ على هذا الفضل في مثل قوله تعالى: “ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات. وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة. وأولئك هم المهتدون”[البقرة، 155-157] وقوله سبحانه تثبيتا لأجر من ابتلي بضعف، أو مرض، أو قلة ذات اليد، إن صدقت نيتهم، ونصحوا لله ورسوله “ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله، ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم. ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون” [سورة التوبة/ الآية: 91-92]، وهو ما استمد من مشكاته سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمومن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له”. [أخرجه مسلم في صحيحه، رقم 2299]
وعلى العموم فإن نعم الله تفوق الإحصاء، قال سبحانه، “ألم تروا أن الله سخّر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير” [سورة لقمان/ الآية:20]، وقال تعالى: “وآتاكم من كل ما سألمتوه. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها. إن الإنسان لظلوم كفار” [سورة إبراهيم/ الآية: 34]. وقد خرجت إشارة الإمام بن عطاء الله رحمه الله إلى هذه المعاني، مخرج الوضوح والتسليم، مما يدل على رسوخ قدمه أجزل الله مثوبته في بابي التعامل والشهود.
وقد نبه الإمام رحمه الله من طرف خفي، إلى أن هذا المقام الذي مرّ بيانه في هذه الفائدة الثانية، مقامٌ بخلاف الأَوْلى، والذي هو تحسين الظن بالله ابتداء لأجل حسن وصفه، وذلك بقوله: “إن لم تحسن ظنك به لأجل حسن وصفه، فحسن ظنك به لحسن معاملته معك..
وثالثة الفوائد: وجوب استدامة العبد التفكّر في أوصاف الله وفي مننه ونعمه عليه، وحسن معاملته إياه، حتى لا تنطمس هذه الآيات العظمى في مقبرة البداهة الثاوية في بواطن أهل الغفلة، والتي ترقد فيها أجداث آيات كثيرة لا تنبعث إلاّ بالتفكّر، وهي جميعها آيات لو استبصر بها المرء لكانت له مرقاة في معارج القدس والقبول.
وهذا لا يتأتى إلا بأن يكون العبد مع كتاب الله حالا مرتحلا، كما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في حديث عن ابن عباس قال فيه: قال رجل يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله؟ قال الحال المرتحل، قال وما الحال المرتحل؟ قال الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره، كلما حل، ارتحل” [أخرجه الترمذي في سننه باب 13]، كما لا يتأتى هذا الاستبصار إلاّ بأن يكون المرء مصاحبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالاطلاع على أقواله، والتخلق بأخلاقه، وكثرة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وأن يكون من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات، إذ بذكره تعالى تحيى القلوب والأرواح، وأن يكون مصاحبا لمن يُنهِض حاله ويذكر بالله مقاله..
والله المستعان وهو يهدي سواء السبيل.
الأمين العام
للرابطة المحمدية للعلماء
-
بسم الله الرحمن الرحيم
جزى الله من جاد علينا بعلمه، وجعل الله هذا الشرح المبارك للحكم العطائية للأستاذ العلامة أحمد عبادي في ميزان حسناته، ونشكر هذا المنبر على هذا السبق العلمي النيِّر، وجعلنا الله ممن يسمع العلم ويتبعه. -
بسم الله الرحمان الرحيم، الجميل الجليل، المنزه عن الشبيه والنظير، والصلاة والسلام على الرسول الحبيب والسراج المنير، وعلى آله وصحابته أجمعين.
كثر الله من إحسانه ومننه عليك فضيلة الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء. وزادنا من إشراقاتك.
وبعد
حجبنا الله عن رؤية كمال ذاته السنية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث قدسي " أنا عند ظن عبدي بي… "
قال مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث قدسي آخر: "كنتُ كنزاً مخفياً وأردتُ أن أعرَفَ فخلقتُ الخلقَ فبي عرفوني" .كيف لا نحسن ظننا بالله وهو الذي لم يظهرنا في هذا الوجود إلا ليَّمُن علينا ويظهر إحسانه وإنعامه علينا، إذ لم يخلقنا إلا لمعرفته [وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون] قال ابن عباس -رضي الله عنه- ليعرفون، ومعرفته كنز لا مثيل لها .
فمعرفته سبحانه تقتضي محبته، ومحبته تقتضي حسن الظن به جل وعلا. فمن لم يحظى بعد بمعرفته فليتبع نصائح أهل المعرفة حين قالوا: "فمن لم يجد فليتواجد". فإن لم نستطع بمعرفة كمال ذات المؤثر أن نحسن ظننا به فقد يتأتى ذلك بالتفكر في آثاره.
التعليقات