أبناؤنا في المهجر.. بين تحدي الإدماج والمحافظة على الهوية
قدر لي أن أسافر إلى أوروبا في أول شهر يوليوز2010 لزيارة العائلة بستكهولم عاصمة مملكة السويد، لبضع وعشرين يوما، وخلالها تنقلت، برفقة بعض الزملاء من أفراد جاليتنا المغربية، بين جهات العاصمة: شمالا وجنوبا وغربا وشرقا، وهذا التنقل مكنني من الوقوف على كثير من مميزات البلد: الجغرافية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية …
وحتى لا أدخل في تفاصيل زائدة، وأكون منسجما مع اختياري للعنوان، فإني أشرع في معالجة الموضوع من خلال الأسئلة الآتية:
• ما خصوصيات هذا البلد الجغرافية والمناخية؟
• ما واقع الجالية المسلمة فيه؟
• ما هي الإشكالية الكبرى التي تواجهها في هذا البلد؟
• خلاصات واقتراحات؟
1. إنه البلد الذي لا يتجاوز عدد سكانه ثمانية ملايين (8 م) نسمة، ومساحته 415000 كلم2، البلد الذي يطول شتاؤه القارس، بحيث تنزل درجة حرارته إلى 25 درجة تحت الصفر ليلا! ويقصر نهاره بحيث تغيب شمسه ويخيم ظلامه الدامس مع الساعة الثالثة زوالا! ويمتد ليله إلى 19 ساعة وزيادة! وعكسه في نهار الصيف، ويكون وقع طول نهار على الجالية المسلمة أشد إذا صادف رمضان كمثل هذه السنة!! وأما ليل الصيف فأقل من خمس ساعات من الغروب إلى الشروق !!
2. إنه البلد الأبيض شتاء والأخضر صيفا، بحيث تكسوه غابات باسقة، ومروج خضراء، وحدائق ذات بهجة، تتخلله أنهار هادئة، تخترقها سفن ضخمة، وتصطف على ضفافها قوارب النزهة البيضاء، وهو عبارة عن جزر متناثرة، يبلغ عددها بالسويد 340000 جزيرة! إضافة إلى هندسة العمارة الرائعة، والبنى التحتية المحكمة …
أما مدارسها -خاصة في التعليم الأولي – فعبارة عن مركب خدماتي يلبي حاجات الأطفال الجسمية (التغذية موفورة، واللعب التربوية متاحة، والصحة المدرسية بتجهيزاتها وخدماتها على أحسن مستوى) والنفسية (مرشدة اجتماعية تتابع الأطفال وتتدخل لعلاج الظواهر السلوكية غير العادية) والتربوية (منشط تربوي خارج أوقات الدراسة مهمته توفير الأنشطة التربوية المناسبة) بالإضافة إلى الأنشطة الموازية: رحلات، خرجات، سباحة ….
3. كل هذه الإمكانيات وكل هذه الخدمات المتاحة تشكل قوة ضاغطة على نفسية الأبناء بهدف غرس الشعور بالانتماء إلى وطن المهجر، ونسيان الوطن الأم، ثم -مع مرور الأيام- ينمو هذا الشعور لدرجة إحلاله في الاعتبار الأول، وفي مقابل ذلك يضعف لديهم الشعور بالانتماء إلى أوطانهم الأصلية وهو الاتجاه الذي بدأ يظهر في بعض أسر الجالية حين يعود الآباء إلى أوطانهم لقضاء العطلة دون الأبناء!! وهذا يضع الآباء أمام تحديات معقدة، وإشكالية عويصة تتحدد في سؤال كبير، يشغل الجالية المسلمة عامة، وهو:
في ظل الخدمات المتاحة للجميع ومن غير تمييز، وفي إطار المشروع الأوروبي الإدماجي، كيف نحافظ على هوية أبنائنا؟ والاعتزاز بالانتماء إلى دينهم ولغتهم وحب أوطانهم ؟
هذا السؤال، كما يقول أحد أفراد الجالية، هو المحير والمؤرق للجميع، بحيث أصبح كابوسا مخيفا يلاحقنا، وينغص الحياة علينا؛ لأن المشكل يمس مصير أبنائنا ورصيد مستقبل أوطاننا وعز أمتنا ويعظم الخوف حين نجد مؤسسات البلد المضيف توفر جميع الوسائل المادية المغرية التي تفوق الوصف في كل مجالات الحياة بهدف الإدماج، لكن المتتبع يجد الدولة نفسها تتعامل-سياسيا -بمعايير مزدوجة، ومع أنها دولة عضو في الاتحاد الأوروبي منذ 1993م ورغم ذلك، وحرصا على مصلحة أبنائها وتجنيبهم آثار الهزات الاقتصادية والأزمات المالية، فإنها ترفض الدخول والاندماج، مع الاتحاد، في وحدة العملة (الأورو) وتفضل الانفراد بعملة خاصة بها(كرونة) غير أنها مع أبناء الجالية تتعامل بوجه آخر، فهي تسعى بكل ما أوتيت من إمكانيات -لا لسواد في عيونهم، أو من منطلق حقوقي وحده – لإدماجهم وسلخهم من جلودهم وهويتهم، لكن الوعي بمخاطر هذه المساعي، حاضر لدى فئة عريضة من الآباء والأمهات في بلاد المهجر، والدليل على ذلك سعيها الحثيث لتعلم لغة البلد المحلية التي تعتبر أعقد لغة، للتواصل مع المحيط بجميع أطيافه، ثم تعبئة أبناء الجالية العربية والإسلامية على مستوى المدن الكبرى -على الأقل-، للاستفادة من قانون الحريات العامة، لتأسيس جمعيات تعنى بشؤون الجالية خاصة شؤون أبنائها، ففتحت مدارس إسلامية خصوصية[1] يتعلم فيها هؤلاء الأبناء مواد اللغة العربية والتربية الإسلامية، إلى جانب مواد التعليم العمومي، إضافة إلى استئجار قاعات، وسط الأحياء السكنية، يستقبل فيها أبناء الجالية، أيام العطلة الأسبوعية وحتى وسط الأسبوع خارج أوقات الدراسة، لتحفيظ أبنائنا القرآن الكريم وتفسير آياته، وتعليمهم مبادئ اللغة العربية، وقد حضرت، فعلا، بعض الدروس لفائدة أبناء الجالية المسلمة المختلفة اللهجات واللغات من الصومالية والإيريترية والكامبية والباكستانية والتركية والعربية…
وكانت مشاعري، وأنا أتابع تلك الحلقات، ينتابها الأسى تارة والرضى طورا، الأسى، لما يعانيه المسلمون، غير العرب، من صعوبات في النطق بالحروف العربية خاصة حين يكون المقروء قرآنا، لكن يشفع لهم كون لسانهم المقيد بالعجمة، آية من آيات الله مصداقا لقوله تعالى: “ومن آياته خلق السماوات والاَرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم” [سورة الروم، الآية:22]، ويختفي ذلك الأسى حين نقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يتتعتع فيه له أجران…”[2].
وينتابني الرضى حينا، حمدا لله تعالى على نعمة اللسان العربي الذي حبانا إياه، وهو نعمة عظيمة لا يدرك قدرها إلا من عايش هذه المعاناة والمكابدات، فلله الحمد والفضل على ما أولى وأعطى.
4. خلاصات واقتراحات:
• إن الخوف على الأبناء ظاهرة طبيعية وعامة، لكن في بلاد المهجر أخص وأشد؛
• لتجاوز هذه الإشكالية لا بد من العمل المكثف على المستويين:
أ- المستوى الداخلي (في المهجر) بالتنسيق فيما بين أبناء الجالية خاصة الواعين منهم بحجم التحديات بهدف خلق أنشطة ثقافية تصب في تحصين الأبناء من الذوبان، كتلك التي تمت الإشارة إليها .
ب- المستوى الخارجي، وذلك بالتنسيق بين المؤسسات المسؤولة عن الجالية وبين الممثلين لها محليا، في كل ما يفيد أبناء الجالية في مجال التربية والتعليم وذلك بإمداد الجالية بالخبرة والخبراء، وبالمناهج والبرامج الخادمة، بهدف التحصين والمحافظة على الهوية دينا ولغة ووطننا والتجربة في مجال التنسيق بين وزارة التربية والتعليم المغربية والجالية المغربية بهولندا على سبيل المثال -فيما أعلم- تجربة قائمة وناجحة، ينبغي أن تعم كل البلاد التي تعيش فيها جالياتنا.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل
—————————————
1. مثل مدرسة عمر بن الخطاب، ومدرسة الزهراء وغيرهما بالعاصمة، ومن تسيير إخواننا المغاربة.
2. صحيح مسلم، ج 4، ص 219.
-
بسم الله الرحمن الرحيم
بارك الله في رحلتكم، فمما يتميز به الإنسان المومن أن تكون كل حركات وسكنات حياته عبادة لله وعملا لخدمة عياله في الأرض.ذلكم ما رمتموه في رحلتكم إلى الديار السويدية.
شكر الله لكم على معلوماتكم القيمة؛
والسلام عليكم وعلى قراء جريدة ميثاق الرابطة
التعليقات