Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

عبد الله الهبطيَ

في مقالة سابقة لي حول سيدي عبد الله بن حسون السلاوي (تـ 1604م) رأينا كيف أنه تلقى عن شيخه عبد الله الهبطي المعارف العلمية والتربية السلوكية الصوفية، وحب الجهاد وبغض المحتل والسعي في قضاء حوائج العباد، وكان من نتائج هذه الروح الجهادية والاجتماعية المباركة-من بين نتائج أخرى- ظهور المجاهد العياشي تلميذ ابن حسون، كبطل قومي بلغت شهرته الآفاق..

فابن حسون تتلمذ في مدرسة جهادية عندما تلقى تكوينه على يد شيخه عبد الله الهبطي، وهذا الأخير تلقى عن الشيخ المجاهد محمد بن عبد الرحيم بن يجّبش التازي الذي ألف كتابا في الجهاد؛ وهي الشخصية التي وقفنا عندها في الحلقة الماضية من علماء وصلحاء، ويخبرنا محمد المهدي الفاسي في “ممتع الأسماع” (ط 1،1989، ص: 88) أن الشيخ عبد الله الهبطي من “أهل العلم والعرفان ورفعة القدر، الواضحة البرهان، وكانت له معرفة تامة بعلوم القوم وقصد في أول أمره الشيخ أبا عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن يجبش بتازة، فوجده في مرض موته وأخذ عنه.. ثم قصد الشيخ الغزواني بفاس وأخذ عنه وصحبه مدة، وانطلق ينشر العلم والصلاح بجبال غمارة، ولا شك أن منهج الغزواني في عمارة الأرض ومحاربة القفر والخلاء قد أثر على الشيخ الهبطي في عمله العمراني الإصلاحي في جبال الهبط.. كما رأينا في المقال السابق الذي خصصته لأبي القاسم ابن خجو، العلاقة التي ربطت بين هذا الأخير والإمام الهبطي حينما اتفقا على اختراق الجبال الهبطية من أجل نشر العلم والعرفان..

يتموقع سيدي عبد الله الهبطي في سلسلة مباركة لانتقال العلم والصلاح؛ نذكر منها ابن يجّبش والغزواني، وابن حسون، والعياشي، والعلامة ابن خجو، وما ارتبط بهؤلاء، كل على حدة، من مسارات إنسانية وعمرانية مزجت وانصهرت بلحمة التاريخ الثقافي المغربي بفضل من الله..

ولد الشيخ عبد الله الهبطي في قرية هْباطة في قبيلة سماتة إحدى القبائل الجبلية بشمال المغرب سنة (890هـ/ 1485 م) تقريبا، أي بعد احتلال طنجة بحوالي أربع عشرة سنة، ومنها اشتق اسم الهبطي، وهناك رأي آخر يرجح أن الهبطي نسبة إلى جبال الهبط المعروفة. ولا شك أن الطوبونيميا تمزج هنا بين اسم القبيلة واسم الجبل في علاقة وطيدة بين التاريخ والمجال.. وقد كانت أسرة الهبطي قد نزلت أولا بقربة تيجساس من قبيلة بني زيان بجبال غمارة، وفي هذه الجبال أتم الشيخ عبد الله الهبطي حفظ القرآن الكريم، وأخذ يدرس مبادئ العلوم اللغوية والدينية، وبعد مدة يسيرة انتقلت أسرة الهبطي من قرية تيجساس إلى قرية تلمبوطبقبيلة بني زجل، وفي بني زجل تتلمذ على الشيخ عبد الله القسطلي الشدادي الزجلي؛ وهو شيخه في القراءات والتفسير وعلوم القرآن، ولازمه الهبطي أكثر من ست سنين..

قال محمد بن جعفر الكتاني في “سلوة الأنفاس” عن الشيخ الهبطي أنه “الشيخ الإمام العالم الفقيه الأستاذ المقرئ الكبير النحوي الفرضي الشهير الولي الصالح العالم الناصح (…) ثم قال: ” وكان عالم فاس في وقته أستاذا مقرئا عارفا بالقراءات مرجوعا إليه فيها. وكان موصوفا بالخير والفلاح والبركة والصلاح ذا أحوال عجيبة وأسرار غريبة”، وأشهر ما وصلنا من آثار عبد الله الهبطي الوقفُ الموجود بين أيدي الناس وهو العنوان البارز للمصحف المغربي والطابع الشخصي للمدرسة القرآنية بمغربنا المبارك..

وممن درس عليهم بجبال غمارة الشيخ الفقيه الحاج زروق الزياني (تـ 931 هـ)، درس عليه الفقه برسالة ابن أبي زيد القيرواني، ويذكر عبد الله الهبطي أن شيخه هذا كان من “أهل الفضل والعلم والصلاح”، وقد ترجم له ابن عسكر في “دوحة الناشر”.

قام سيدي عبد الله الهبطي برحلة في طلب العلم إلى فاس كما مر معنا، ومن أشهر شيوخه بهذه المدينة الشيخ أبو العباس أحمد الزقاق (تـ 920هـ)، وقد استمرت علاقته وطيدة بأسرة الزقاق ولم تنقطع قط، نفهم ذلك من موقف الشيخ عبد الوهاب الزقاق (تـ 961 هـ) من المناظرة التي جرت بين الشيخ الهبطي والشيخ اليسّيتني (تـ 959هـ)؛ حيث كان سيدي عبد الوهاب الزقاق من مؤيدي الشيخ عبد الله الهبطي في هذه النازلة المشهورة، وكان من الذين قرروا عدم المشاركة في التمثيلية التي رتّب لهابمحضر السلطان محمد الشيخ السعدي، ونعرف كذلك أن صاحبنا الهبطي أخذ عن العالم الكبير سيدي محمد ابن غازي المكناسي.. وتتلمذ بفاس كذلك على العلامة أبي العباس أحمد بن محمد العبادي التلمساني (تـ 931هـ) الذي ورد على فاس أيام السلطان محمد الشيخ المعروف بـ “البرتغالي”، وقدم هذا الشيخ للتدريس بالقرويين، وانتفع الناس بعلمه وثقافته الواسعة وكان ممن تتلمذ عليه عبد الله الهبطي رحمه الله، ومن تلاميذ عبد الله الهبطينذكر عبد الله محمد بن علي بن عدة، وتلاميذه ذكرهم صاحب “الجذوة” بالتفصيل..

أخذ الإمام الهبطي علوم التصوف عن أبي عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن يجبش التازي (انظر المقال 96 من العدد السابق في جريدة ميثاق الرابطة)، فقصده إلى مقر سكناه بمدينة تازة، إلا أنه وجده مريضا، فأخذ يتردد عليه، وكان الشيخ ابن يجبش على فراش الموت، إلا أنه فتح عينيه وركز بصره على سيدي عبد الله الهبطي واستبقاه بعد خروج الزوار، فحدثه وانبسط معه وتعهدا على نشر الفضيلة والصلاح في ربوع البلاد، وتوفي الشيخ ابن يجبش رحمه الله بعد أن أفضى إلى تلميذه أسرارا وأنوارا، وكان ذلك سنة 920هـ.
بعد وفاة ابن يجبش التازي التجأ عبد الله الهبطي إلى الإمام عبد الله الغزواني بمدينة فاس، وكان هذا الأخير لم يستقر بعد بشكل نهائي بمراكش التي يعد من رجالها السبعة، اتصل عبد الله الهبطي بالشيخ عبد الله الغزواني، وصحبه وأخذ عنه، بل رافقه مدة طويلة في حله وترحاله، وبعد هذه الجولة في طريق القوم عاد إلى جبال غمارة متشبعا بالثقافة الصوفية الشاذلية المباركة، وكان أول ما قام به بعد عودته إلى بلاده هو زيارته لصديقه الحميم الشيخ العلامة أبي القاسم بن خجو (تـ 956هـ).

وقد أثر الهبطي في صديقة ابن خجو تأثيرا كبيرا، وكان سببا في تعلق هذا الأخير بالفكر الصوفي بعد ارتياب، حتى صار ابن خجو من كبار دعاة الصوفية، وهو الفقيه الكبير والعالم الفاضل بجبال غمارة وبلاد الهبط و قد ألف كتابا سماه: “ضياء النهار المجلي لغمام الأبصار في نصرة أهل السنة الفقراء الأخيار”، بل ذهب الأمر بابن خجو إلى أن اتخذ الإمام الهبطي شيخا في التصوف رغم الفارق في العلم والسن والتجربة. وقد مر معنا في مقالتي حول ابن خجو بـ “جريدة ميثاق الرابطة الغراء” أن الشيخان الهبطي وابن خجو، أصبحا يتعاونان في ميدان الدعوة ولا يفترقان إلا قليلا حيث أخذا يتجولان معا في القبائل والمداشر داعين إلى الله آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر.. بل نجدهما قد نسقا خطتهما في هذا الشأن تنسيقا عجيبا، وتوجا تعاونهما هذا بالمصاهرة بحيث ارتبط الشيخ عبد الله الهبطي بأخت الشيخ أبي القاسم بن خجو، واشتركت معهما هذه السيدة الفاضلة المباركة في ميدان نشر العلم والصلاح، وأصبحت بدار زوجها ب”المواهب” تقوم بتعليم النساء وإرشادهن إلى طريق الخير..

وكانت عادة الشيخ عبد الله الهبطي أنه إذا دخل مدشرا من المداشر؛ فإنه يقصد المسجد أولا، فإذا لم يكن بالمدشر مسجد، يعمل هو وجماعته على بنائه، واستطاع الشيخ عبد الله الهبطي أن يخلص القبائل الغمارية من ظاهرة الوشم التي كانت عادة سيئة فيهم، بحث قطع دابرها ولم يبق لها اليوم أي أثر في جبال غمارة..

وفي سياق ربط العلم بالعمل، نقول أنه بالإضافة إلى نظم المنظومات الإرشادية، وكتابة الرسائل والتوقيع على المواثيق والعهود، بنفس إصلاحي تنظيمي تشريعي مقاصدي، والتجوال بالمداشر والقبائل والمسالك، وبناء المساجد وعمارتها وجعلها نقطا مركزية في الجمع والتأثير والإصلاح، فقد كان الشيخ الهبطي يتلمس الفرص وقت التجمعات القبلية ليأخذ الكلمة وينخرط في النقاش ويدعو ويوجه ويبث الخير والكلمة الطيبة بين الناس في هذه المناطق البعيدة عن مراكز السلطة والتشريع؛ وهذا دليل كبير على طول نفس هذا الرجل الفاضل واهتمامه بهموم الناس، ورغبته في نفع منطقته وأهل بلده، ولو قلنا أن شخصا انبرى اليوم بمناطق جبلية نائية بالمغرب، يبث الخير ويصلح بين الناس، ويغيث اللهفان، وينشر العلم والسلم، لانبهرنا بذلك ونحن في بلد آمن مسالم فما بالنا بجبال غمارة خلال القرن العاشر الهجري وما عاشه المغرب خلاله من ظروف ومحن؛ في هذا السياق يجب أن نفهم تجربة الإمام الهبطي المباركة..

كان الشيخ عبد الله الهبطي يستعين في نشر دعوته بتلامذته ومحبيه وأصدقائه، وكانت زوجته السيدة آمنة بنت علي بن خجو، وأخت صديقه أبي القاسم بن خجو، تقوم بتعليم النساء ما يتعلق بأمور بالدين.

 تعرض الشيخ عبد الله الهبطي لمضايقات كثيرة من أمراء بني راشد حكام شفشاون، ويشير ابن عسكر في “دوحة الناشر” إلى بعض هذه المضايقات، فهو يحدثنا مثلا عن الدور الذي قام به القائد محمد بن علي بن راشد في إشعال المناظرة الشهيرة بين الشيخالهبطي والفقيه الشهير اليسيتني، وكيف كان هذا القائد يتربص بالشيخ الهبطي ويؤذيه، ويذكر الشيخ محمد الصغير بن عبد الله الهبطي ولد سيدي عبد الله أن والده رفض هدية قدمها له القائد محمد بن راشد، وهي هدية عبارة عن أكياس من القمح بعثها له القائد ابن راشد في عام المجاعة فرفض الشيخ أن يدخلها إلى منزله وقام بتوزيعها على المساكين والفقراء ولم يدخل منها إلى بيته ولا حبة واحدة، والخبر في “المعرب الفصيح في ترجمة الشيخ النصيح” لمحمد بن عبد الله الهبطي، وهو منظومة في ترجمة والده الهبطي في أزيد من ألف وثلاثمائة بيت، والغالب أن الشيخ عبد الله الهبطي تعرض للإهانة والضرب والحبس، نفهم ذلك مما يذكره ولده محمد بن عبد الله الهبطي في منظومته في ترجمة والده:

كـم ســامه بالضـرب والتهــاون           والـي وقــاضي الجـور بشفشاون

سجنـــه القاضــي عدو نفســه           مـــن غير جـــــرم مـوجب لحبسه

 والقاضي المقصود هنا هو القاضي محمد بن أحمد بن الحاج، وهذا القاضي تولى القضاء بشفشاون مدة طويلة، أما الوالي فهو محمد بن علي بن راشد، ويشير العلامة أبو الحسن علي اليوسي في “المحاضرات” إلى ما لاقاه الشيخ عبد الله الهبطي من بعض معاصريه من مضايقات.. وهكذا فتن الشيخ عبد الله الهبطي كما يفتن الدعاة والمصلحون في كل زمان ومكان؛ إلا انه بالرغم من ذلك ظل صامدا صابرا محتسبا، وواصل المضي في رسالته الإصلاحية إلى أن شل في آخر عمره وعجز عن المشي، لكنه لم ينقطع عن عقد حلقات الدرس ولا عن مجالسه العلمية بفضل من الله..

 ترجم للشيخ عبد الله الهبطي كثير من الأفاضل منهم محمد العربي الفاسي في “مرآة المحاسن“، ومحمد المهدي الفاسي في “ممتع الأسماع“، المراكشي السملالي في “الإعلام“، وابن عسكر في “الدوحة”، وابن القاضي في “الدرة”، و “الجذوة”، والحضيكي في “طبقاته”، وسيدي أحمد بن عجيبة في “أزهار البستان في طبقات الأعيان“، والقادري في “نشر المثاني“، والشيخ محمد بن الطيب القادري في “الإكليل والتاج“.. وتعرض بعض الفقهاء الكبار في مناسبات عنه كذلك بعض الفقهاء في مناسبات مختلفة وخاصة الشيخ القاضي أحمد بن عرضون (تـ 992 هـ) في كتابه “مقنع المحتاج“، وفي مختصره، حيث نقل عنه مرارا وفي مناسبات كثيرة، وتحدث عنه كذلك الفقيه محمد بن عيسى العلمي الشفشاوني وذلك أثناء شرحه “لمنظومة الشيخ عبد الله الهبطي في العدة، ومن القفهاء الذين تحدثوا عنه كذلك أبو الحسن علي النوازلي شقيق شارح منظومة العدة السالف الذكر؛ فقد نقل عنه عدة فتاوى في موضوع العقائد، وتعرض لقضية الخلاف بينه وبين الشيخ اليسيتني المذكورة. ونقل فتاوى بعض العلماء المؤيدين له كالفقيه محمد بن جلال التلمساني خطيب جامع الأندلس ثم جامع القرويين، وممن دافع عن الشيخ عبد الله الهبطي في “مسألة النفي في كلمة الإخلاص” الشيخ العلامة أبو الحسن اليوسي (تـ 1102 هـ) في كتابه “مشرب العام والخاص من كلمة الإخلاص“، حيث تعرض للخلاف بينه وبين الشيخ اليستني (تـ 959هـ) وأبان وجه الخلاف بينهما،وأنصف الهبطي ودافع عنه.وتحدث عنه الشيخ اليوسي كذلك في كتابه “المحاضرات“، وتحدث عنه غير هؤلاء كالشيخ أحمد البوسعيدي.السوسي والشيخ عبد القادر ابن علي الفاسي وغيرهما.
وهكذا نرى أن الشيخ عبد الله الهبطي أثر في عصر بأكمله وشغل الناس بعلمه وعمله ودعوته الإصلاحية، لذلك حاز الهبطي تقديرا ومكانة كبرى في أوساط الفقهاء والمؤرخين وأهل التصوف وحصل حوله الإجماع بفضل من الله، وللإمام الهبطيمنظومات ورسائل، ومؤلفات في العقائد لازالت تحتاج إلى دراسات وتحقيقات.. ولابد من ذكر معهد الشيخ الهبطي “بالمواهب” بالجبل الأشهب، وهو المعهد الذي تخرج منه عدد كبير من رجال العلم والصلاح، وأئمة التربية الصوفية، وهو معهد كانت تدرس به مختلف العلوم والفنون التي كانت معروفة في ذلك العصر.

ومن المقالات المفيدة التي كتبت حول الشيخ الهبطي مقالة الأستاذ الفاضل سيدي عبد القادر العافية بعنوان “الداعية الشيخ عبد الله الهبطي” بالعدد الرابع من السنة العشرون (أبريل 1979)، وقد استفدت من هذه المقالة بشكل كبير..

 توفي الإمام الهبطي بفاس سنة ثلاثين وتسعمائة (930ه) ودفن بروضة الزهيري بطالعة فاس، رحمه الله تعالى وجازاه عن الريف والمغرب خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه.

أرسل تعليق