Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

نظرات في التحدي التربوي

قال الله تباركت أسماؤه: وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد ءَامنا واجنبني وبني أن نعبد الاَصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فانك غفور رحيم ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل اَفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ربنا انك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الاَرض ولا في السماء الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اَغفر لي ولوالدي وللمومنين يوم يقوم الحساب” [إبراهيم، 37-43].

أصبحت طوالع شهر شتنبر موعدا ثابتا لتقويم حصاد السنين والخطط في ميدان التربية والتعليم، وأريد أن أقول بهذه المناسبة:

إن مشروع التربية والتعليم هو مشروع أمة لا يقل أهمية عن شؤون الحريات والسيادة والأمن، وإن أي تقصير في الوعي بعظمة هذا المشروع وخطر مؤسساته سواء على الصعيد الفردي أو الجماعي يعرض مصيرنا جميعا لمستقبل قاتم، وخسران كبير، وإن من المهم أن ندرك أن روح التربية والتعليم هي الأسلوب، وهي الأداة التي تضع الإنسان في بداية طريق النمو، والاستفادة من الخبرة المجتمعية والحضارية.

 إن التربية لا تعدو أن تكون مجرد توفير الفرص للنمو الطبيعي؛ فهي ليست شيئا يقحم على الناشئة يفرض ضد رغبتهم وإرادتهم، وإنما هي ورش كبير للإقناع الذي يستند إلى حسن الحوار والتواصل وبسط الأدلة في سبيل تنمية القدرات الفطرية الكامنة في الإنسان، فجوهر العملية التربوية أنها إقناع لا إكراه، وحوار متواصل لاختيار الأفضل والعمل به.

فعلى صعيد التعليم؛ من المهم أن نُكوّن لدى الذين نربيهم العقل المفتوح الذي يكون مستعدا دائما لفهم الجديد واستيعابه ونقده واستثماره.

 والعقل المفتوح هو الذي يمتلك القدرة على إدراك الأشياء والربط بينها وأخذ العبرة منها. فطلابنا لا يتقبلون الجديد فحسب، ولكن يبحثون عنه، ويتشوفون إليه، ويشاركون في إنجازه وتحقيقه، وذلك يحصل قدرا مقدورا حين تقدم لهم المعرفة بطريقة مرنة تساق فيها الحقائق والمعلومات والمعطيات على نحو يسمح بالمراجعة والنقد والتفتح الذهني وإثارة السؤال.

إن كل آرائنا ومناهجنا وطروحاتنا ينبغي أن تحفتظ بمساحات مفتوحة؛ فهناك دائما إمكانات لضرب من التقدم، وضرب من الاجتهاد، وضرب من الإبداع المستقل، وهناك دائما أشكال من الحلول والبدائل، فالله جل وعلا خلقنا لنتعلم ونكتشف ونبدع، ومعنى ذلك أن الكمال يوجد أمامنا حيث توجد الأهداف التي نؤمن بها وننشد تحقيقها. كان أحد الحكماء يعلم أحد أبنائه، ويقول له اعلم يا بني: “أن وراء كل باب، بابا يمكن أن يفتح“. هذا هو العقل المفتوح الذي نريد لأبنائنا أن يتحلّوا به، وأن يكون جزءا من النمط التعليمي والمعرفي والثقافي السائد في بيئاتهم ومدارسهم وجامعاتهم.. ولكن بالأسف مازالت تربيتنا في الأسرة والمدرسة والجامعة تؤسّس لثقافة التلقين ومراسيم التوقير والتسليم لأننا نعتقد أن غياب أي اعتراض أو نقد أو مراجعة هو دليل صحة وعافية.. إن وضع المدارس والجامعات مرآة صادقة تعكس حقيقة الأوضاع الفكرية والسياسية والاجتماعية والحضارية الواقعة اليوم داخل مجتمعاتنا.

إن المهمة الجديدة للتربية ليست أن تُعد الأجيال لقبول التغيرات الكثيفة القادمة والتكيف معها فحسب، وإنما السيطرة عليها ومعرفة استخراج خير ما فيها.

إن المأساة أن تنتشر المعارف وتتدفق المعلومات في كل جانب ومع ذلك يزداد ضعف الأخلاق، وضعف تكوين الشخصية لدى الجيل الجديد، وتنكمش الحكمة، وتنطمس البصيرة، ويقل الرشد. ولعل السبب أن كثيرا من جهودنا التربوية أصبحت تتحرك بلا هدف وبلا مثل أعلى كما يقول “أينشتاين”: “إن حضارتنا تمتلك إمكانات كبيرة، لكن الأهداف الكبرى غامضة“. وقال صاحب كتاب “جنون القوة”: “نعم استطاع الإنسان المعاصر أن يضع قدميه على القمر، ولكن أقدامه الحقيقية ما زالت غارقة في الوحل“.

وفيما يتعلق بالشأن التربوي بإمكان المربي أن يرفع عقيرته بكثير من النصائح والمبادئ، ويلح على كثير من التوجيهات والمواعظ، لكن المحك الحقيقي في الاستجابة له والتأثر به يرجع إلى ما تتكلم به شخصيته بلسان الأفعال لا بلسان الأقوال أي لابد من ملاحظة الحالة العامة التي يكون عليها المربي أثناء التوجيه، فأولادنا  أذكى مما نتصور، إذ يلاحظون أمورا دقيقة لا نلقي لها بالا، ويقوّمون أعمالنا ومواقفنا بميزان خاص لا يلتفت إليه الكبار في الغالب.

ليست المشكلة في التربية مقصورة على وجود مسافات بعيدة بين القول والفعل، أو بين المبدأ والسلوك، أو بين الضمير والواقع؛ وإنما هناك مشكلات أخرى منها أن الذي ربي بنوع من القسوة، يجنح إلى استعمال نفس الأسلوب مع من يربيهم، وربما ظن أن ذلك هو الأسلوب الأمثل وقد يمارسه بطريقة لاشعورية، كما أن أمية أحد الوالدين تجعله عاجزا عن إدراك أهمية تعليم ابنه، وإذا ما كان حريصا على تعليم أولاده فقد لا يملك من المعرفة الضرورية التي تؤهله لتدبير هذا المشروع وإيصاله إلى غايته. إن الطفل الذي يعيش في جو من السماحة يتعلم اللطف والتكامل ومحبّة الناس، وإن الطفل الذي يعيش في جو من الصراع والشنآن يتعلم أفانين التسلط والشجب والتنابذ.

ومشكلة المفارقة بين القول والفعل هي أخطر ما تعانيه تربيتنا في النواحي السلوكية على صعيد الخاص والعام، إذ ماذا يمكن أن يفعل أبٌ مدخّن اكتشف أن ابنه يدخن أو ابنته تدخن، وماذا سيفعل أب يأكل الحرام، ويأكل أموال الناس بالباطل حين يجد أن ابنه سرق؟

إن السؤال الصعب الذي يقتضي منا كثيرا من التأمل في هذا السياق هو: هل بإمكان الكبار أن يربّوا الصغار على قيم ومبادئ أفضل من تلك التي تتجسّد في سلوكهم، وتتشخّص يوميا في أفعالهم وتصرفاتهم؟

إن علينا أن نقوم العديد من جوانب الخلل في أوضاعنا حتى لا يستمر الخطأ، ونجني على الأجيال الصاعدة، إن كثيرا من الناس نشأوا في ظروف نفسية واجتماعية سيئة مما أورث النفوس روح الفردية والأنانية والاستبداد والنهب، وإن من واجبنا ألا نورث هذه الأمراض لأبنائنا. وللحديث بقية عن قضايا أخرى ترتبط بالتحدي التربوي في زمننا الراهن، وإلى لقاء قريب بإذن الله، والسلام.

أرسل تعليق