Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

محمد بن الطيب العلمي (2/3)

لا شك أن كتاب الأنيس للعلمي يعتبر مساهمة نوعية في التأريخ للحركة الأدبية خلال العصر العلوي، زاد من قيمته المرحلة الفكرية المفصلية التي ألف فيها والمتمثلة في عودة استقرار الحركة العلمية، وتجديد دمائها بعد الاستقرار السياسي في عهد السلطان العلوي مولاي إسماعيل.

ليس غريبا أن نجد في كتاب الأنيس، بعد المقدمة مباشرة ثلاث قصائد[1] في مدح السلطان المولى إسماعيل لنستدفع -كما قال العلمي- بذلك جيوش الهم، ولنكون ممن قدم الأمر الأهم[2]، ويطلب العلمي من قارئ القصيدة الثالثة أن يغض النظر عن هفواتها؛ لأنه نظمها في حداثة سنه، وتقع التراجم الاثنى عشر ومختارات أصحابها فيما بين الصفحة السادسة والصفحة التاسعة والأربعين بعد الثلاثمائة، تأتي بعدها خاتمة محتوية على ملاحظات مفيدة حول رجال الأدب: يقول العلمي: “مراتب هؤلاء الرجال متفاوتة في الارتجاج والارتجال، فهم بين رئيس طاوعته أقلامه، ورسخت في مراكز البلاغة أقدامه، وانتشرت في عساكر المبارزة راياته وأعلامه، فهو في فنون الكلام يتصرف، ويريد أن ينكر فيأتي الله إلا أن يعرف كلامه السهل يسيل المدامع، وتصغى له المسامع، ويعد بنظم مثله كل سامع، فإذا ريم أعجز، وما طل في ذلك الموعد وما أنجز وبين آخر كثير الأغراب، راغب عن الأعراب، لا يعلم له مراد، ولا يفهم من أبياته إلا الأفراد وهو إذا تأمله وجدته يتكلف ذلك الإيهام، ليعمى على الأفهام، ويحتاج إليه للاستفهام، وليعلم أن له اطلاعا على اللغة وأنه بلغه من الغريب ما بلغه، وذلك رأى جنح إليه اعتقاده، وأداه إلى ارتكابه اجتهاده، فباء باجتهاد غير مصيب، وانقلب عن غنيمة الإجادة بغير نصيب.. [3].

وقد نادى العلمي كسائر النقاد الأكفاء، بالأسلوب السهل والاختيار الذكي للألفاظ، والوضوح في التعبير، وحمل على التقليد والأغراب اللذين كانا شائعين في عصره، ولم يسلم هو نفسه منهما أحيانا..

محمد بن الطيب العلمي (2/3)وتستمر خاتمة الأنيس في بيان الفصاحة مع إيراد الاستشهادات التقليدية التي نجدها في أكثر كتب الفن وفي أبداء ملاحظات حول الشعر.

تكمن أهمية الأنيس خاصة فيما يشمل عليه من معلومات كثيرة ووثيقة عن الحياة الأدبية في المغرب لما فيه من ملامح مفيدة من تعريف بالشاعر مثلا، وذكر منازل السّنة وأدلتها، وجدول الشهور العجمية حسب تقويم جليان الذي كان ما يزال معروفا في البوادي ورسم العناصر الأربعة وتأثيرها وتوافقها الخ[4].

أما الأدباء الذين ترجم لهم في الأنيس، فليس فيهم من المشهورين غير ابن زاكور، بينما الآخرون أكثرهم، كتاب من الحاشية السلطانية في مستهل القرن الثامن عشر، أسماء تكاد تكون غامضة على العموم لم تتمكن من الحصول على الشهرة الحضرية الواسعة، لذلك فإنهم يسيرون في اتجاه معاكس لتيار عصر مولع بموضوعات أكثر تزمتا[5]. وإن تأكيد العلمي على شخصيات مغمورة في عصره باستثناء ابن زاكور يدل على رغبة كبيرة في التعريف بالنوابغ من المغمورين الذين أهملوا في كتب الأدب والتراجم، وهذه مسألة تحسب للعلمي..

لكن ما في الأنيس قبل كل شيء هو العلمي نفسه الذي نلتقي به في كل صفحة، بل وفي كل فقرة، والحق أن تتبع فصول هذا الكتاب النفيس يستحق دراسة وافية.

والطريف أن محمد بن الطيب العلمي يتحدث عن شعره بكثير من الفخر والاعتزاز، ولا يمكن إلا أن نجاريه في ذلك. فقد قال في قصيدة بعث بها إلى أحد أصدقائه:

ولى شعر يغار الســحـر منه          شهي مثل منظرك الـشهي

معانـــــيه وألــــفاظ ونــــسج          خفي فــي خفي في خـفي

 ولكني لــما أودعـــت فـــــيه          أنزهه عـــــــن الغمر الغبى[6]

قلت لا يمكن إلا أن نتعاطف مع العلمي في شهادته عن نفسه بالتفوق في صناعة الشعر ذلك أن شعره ساحر جذاب سواء برقته وعذوبته أو بدقة أفكاره وتعابيره، ويزيده فتنة روعة كثرة استعمال البحور القصيرة الصعبة كالرمل والسريع والمنسرح.

وقد تعددت مواضيع شعر العلمي ولامست جل الموضوعات الأدبية من مدح، وشكوى ووصف الرياض والحياض وفورات المياه، والنزهات على ضفاف وادي فاس، وأفكار فلسفية متعلقة بالوجود والحياة والموت..

وقد قلت من قبل بأن العلمي عرف اليتم مبكرا، وكابد أشد أنواع الفقر؛ لأن والده لم يترك له شيئا بعد موته، لذلك نجده يستعين في أمر معاشه بقرض الشعر المربح، وبالطبع كان الشخص الأول قصده العلمي بشعره هو السلطان المولى إسماعيل العلوي، فخصه بثلاث قصائد تبتدئ إحداها بقول العلمي:

لك العز والتــــأييـد والفـــتح والنصر        أيــــــا ملــــكا لـــه البــــر والبــــحر

 هزمت جيوش الكفر في كل معرك        وشيدت ركن الدين فانتفض الكفر[7]

يقول الفاضل محمد الأخضر في كتابه الحياة الأدبية في المغرب على عهد الدولة العلوية: (دار الرشاد الحديثة، 1977) معلقا على هذه الأبيات: يمتاز هذا المطلع بالاستعمال الموفق لصور البر والبحر، وهما يعفران جبينهما بين يدي السلطان، وصرح الدين الذي شيدت أركانه وعززت وصرح الكفر وقد هدمت جوانبه وهزمت جيوشه، كل ذلك في لغة سهلة لا تكلف فيها.

وأنا أقول أن حركة تحرير الثغور التي اعتمدها المولى إسماعيل لافتكاك السواحل المغربية من الاحتلال الاسباني والبرتغالي، ومشاركة العلماء والصلحاء في ذلك تجد صداها هنا في أبيات محمد بن الطيب العلمي..

يتأكد هذا الرأي في قول العلمي في نفس القصيدة:

جنودك كالليل البهــيم مهابة       ولكنما أبطالها الانجــم الزهر

   تقدمها خيل عتــاق إذا عدت       تكاد تجاريه الـــــرياح والطير[8]

أما الشيخ محمد بن مولاي عبد الله الشريف الوزاني، فقد رثاه وهو لم يجاوز العشرين من عمره.

بالإضافة إلى المدح اهتم العلمي في شعره بوصف الطبيعة، وقد استغل النزهات الكثيرة التي كان يقوم بها على ضفاف وادي فاس ونهر سبو، لملاحظة الطبيعة ووصفها بكيفية دقيقة، حتى لتكاد جميع قصائده تحتوي على وصف الرياض والأزهار والعطور، كما يتجلى  من هذا المقطع:

غنت على الأغصـان ورق الحمام         فكدت من شــوقي أذوق الحـمام

وابتسمت فــــي الروض أزهـارها         والجو يبكــي بــــدموع الغــــمـام

فهــــاتها تنســل مــــن ظــــربـها         تريك سرى الفجــر تحــت الظلام

مــــــن كـــف هيـــفاء مـــغـــــنية         تمزج راحـى الســـرور المــــــدام

غيـداء لـــولا فــــرط حـــبي لهـــا         ما كنت أدري كيف شرب المـدام

وللعلمي كذلك باع طويل في شعر الغزل لكنه شعر لا يخلو من نبرة صوفية كونية، يقول:

ولم أهو لهوا لا ولاهمت فـــي رشى       ولا استملحت عـــيناي زيــدا ولا عمرا

ولم أنتخــب هــــندا ولـــيلى لصبوتي       ولم أتبع في العشق قيسا ولا بشرا

ويقول أيضا:

بكـيت لبـــــدر سار عنـــى ظاعــــنا       على قده قــد كنت أســتـطلع البدرا

خشعت لــــه لما سـرى ليلة النوى       ويخشع كل الناس من ليلة الأسرى

وكم لي أنهاه عـن السير بالحـشى       وما خلت أن البــــدر لا يتـرك السيرا

سرى يــــــذرع الأقطار شبرا وأذرعا       ولــم يبـــق لي فيها ذراعا ولا شبرا

لقد كنـت أغنى الناس لو دام وصـله       أرى ثغـــــــره درا فـأنسى به التبـرا

يقول الفاضل محمد الأخضر في كتابه سابق الذكر: “من الممكن على كل حال أن يكون العلمي أبيقوريا منغمسا في اللذات، وصوفيا متدينا في نفس الوقت يسير تارة وراء الشهوات ويرجع أخرى إلى التوبة والعبادة تجتذبه حياته الماجنة المضطربة مرة إلى الشر، ومرة ثانية إلى الندم وتأنيب الضمير، كما تتجلى في البيتين التاليين اللذين يشتكي فيهما إلى المولى تعالى:

يا رب أشكوك ما علمت به        من الخـلاف وســيء الأدب

ومن أحاديث قد وشيت بها        طرزتها بالــخـداع والــــكذب

ومن فواحـــش جئتـها فرحا        بين الفــصول آلــة الـــطرب

ومن صـــلاة أضعــــتها زمنا        أخرتها عــــــمدا بلا ســبب

يتبع في العدد المقبل..

—————————————————————

1. م العلمي، الأنيس، ص: 3- 6 تحتوي القصيدة الأولى على 31 بيتا، والثانية على 18 بيتا، والثالثة على 13 بيتا.

2. المصدر السابق، ص: 3.

3. م العلمي الأنيس ص 349-350.

4. ج بيرك الأدب المغربي والشرق في القرن 18 ص: 311- 312 ويتعلق الأمر بكتاب الحلل للحلبي.

5. نفسه.

6. م العلمي الأنيس ص: 97.

7. م العلمي الأنيس ص: 4.

8. نفسه ص: 5.

أرسل تعليق