Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

سيدي أو سيدي (3/3)

غادر أبو محمد صالح بن واندلوس تارودانت على عادة فضلاء سوس في البحث عن المعرفة والعلم والصلاح وزيارة الأماكن المباركة في الحجاز مرورا بالعديد من معاقل العلم والحضارة في بلاد المغرب ومصر والشام..

سيدي أو سيدي (3/3)

يفترض أحمد بزيد في كتابه حول سيدي أو سيدي أن يكون هذا الأخير قد اتجه نحو أغمات بعد خروجه من تارودانت. وكانت حاضرة أغمات في عهد سيدي أو سيدي مركزا علميا كبيرا تشد إليه الرحال من شمال إفريقيا والأندلس والشرق. كما كانت معروفة باستقبال القوافل التجارية، كما تردد ذكرها عاليا، لأهميتها الطبيعية ونشاطها الاقتصادي وازدهارها العلمي وكونها أيضا مركزا عاليا للتصوف وأهله.

كانت أغمات هي المرحلة الأولى من رحلة صاحبنا بن واندلوس على الرغم من غياب دليل مكتوب، مادام ابن الزيات لم يذكر ما إذا كانت أغمات أو مراكش المرحلة الأولى في رحلة بن واندلوس، لكن طبائع الأشياء تؤكد أن القادم إلى مراكش من سوس لابد وان يعرج على حاضرة أغمات التي كانت حلقات الدرس والتصوف بها عامرة، وحركتها التجارية مزدهرة، وهو الإغراء الذي لا نظن أن سيدي أو سيدي يمكن أن يقاومه.

يقول أحمد بزيد في كتابه سابق الذكر: فمدينة أغمات بهذه الأهمية من شأنها أن تستهوي أبا محمد صالح الشاب الطموح، والصالح الجموح، بعد مفارقته لأسرته، ويجد فيها من الأسباب ما يقوي رغبته في التجوال، ويذكي حماسته في التنقل والترحال، بعد أن وسع فيها من دائرة معارفه العلمية، واتصالاته الشخصية، وعلاقاته الاجتماعية مع رجال العلم والتصوف، وشرائح المجتمع الأغماتي، التي لا بد وأنه وجد فيها السلوى، وفرصة اختبار الحياة والناس ليشتد عزمه على المغامرة والتحمل. ومن غير شك أنه أخذ بها قسطا من معارف العصر على يد شيوخ الدرس والتحصيل، بمعية عديد من الطلبة المصامدة والجزوليين، الذين نزلوا بها وشاركوا في حياتها العلمية والدينية، ممن نقرأ أسماءهم في ثنايا مختلف المصنفات التي وضعت في هذا العهد وبعده.

وصل بن واندلوس إلى مراكش  في الربع الثالث من القرن 6، فوجدها تعج بالعلم والصلاح، مليئة بالحركة والنشاط الحضاري والعمراني، الذي لا شك أغراه بالتنقل في رحابها، طالبا ملازما لحلقات شيوخ الدرس، والتزود منها بمراتب عالية في العلم والتصوف.. ومع أن ابن الزيات التادلي لم يزودنا بما يكفي من معطيات عن الفترة التي مكثها بن واندلوس في أغمات ومراكش.. فإننا نستطيع القول بأن سيدي أو سيدي لا يمكن أن يتأخر عن مجالس العلم وحلقات الدرس التي يعقدها العلماء منهم والمتصوفة، فيتصل بأهل العلم والصلاح، ويعاشرهم رغبة في الإقتداء والاستفادة والاطلاع. فلا نعرف بالتحديد مدة إقامته في مراكش، قبل أن يغادرها نحو الشرق، ولا بمن كان له به اتصال، فهذه الفترة تعتبر أشد الفترات غموضا في حياة صاحبنا بن واندلوس.

يمكن الاطمئنان إلى أن بن واندلوس لا بد وأن يمر في طريقه إلى الحجاز بمختلف المراكز الحضرية والعلمية المزدهرة في تلك الفترة، مثل تلمسان وبجاية والقيروان والإسكندرية والقاهرة ومكة والمدينة.. ويتصل فيها بمن يلقاه من أهل العلم والدين والصلاح، ويحضر مجالسهم، وهو تقليد تاريخي علمي، وسلوك اجتماعي راسخ عند المغاربة منذ القرن 3هـ مما هو معروف في كتب الرحلات.

ومن المؤكد أن أبا محمد نزل بمراكش بعد عودته من رحلته الحجازية، وقضى فترة يتردد فيها بين مراكش وبين أغمات، قبل أن يرجع إلى مسقط رأسه بتارودانت، لكن تفاصيل حياته واتصالاته خلال هذه الفترة أيضا لم تسلم من الإهمال والإغفال في ما دونه ابن الزيات، رغم أن كل ما دونه عن بن واندلوس تم خلال هذه المدة التي قضاها أبو محمد صالح بن واندلوس بمراكش قبل مغادرتها إلى تارودانت[1]. ولولا ما أخبر به ابن الزيات عن هذا الشيخ الكبير، لظل شخصا مجهولا ولا يعلم به أحد من أبناء اليوم، فيطويه النسيان كما طوي كثيرين من أمثاله الأعلام. فقد احتفظ لنا بمعطيات هامة عن المترجم تهم علاقته بمعاصريه ومحيطه الاجتماعي والثقافي الذي يعيش فيه، فجميع من أخبروا عنه وعرفوه، كانوا أصدقاء له من تلاميذ الشيخين يوسف بن علي الصنهاجي (سيدي يوسف بن علي)، أحد الرجال السبعة توفي 593هـ/1197م[2]، وأبي العباس السبتي توفي 601هـ/1204م، أحد الرجال السبعة كذلك، وكان بن واندلوس ممن عاشوا هذه الفترة وصاحبوا هذين الفاضلين.

فقد صاحب سيدي يوسف بن علي بعد رجوعه من رحلته الحجازية، برفقة  صديقه إبراهيم بن أحمد الوراق من تلاميذ أبي العباس السبتي، وأبيه أحمد الوراق، فلازمه في مكتبته واستفاد منه، وكانت بينهما علاقة صحبة ، استفاد منها ابن الزيات التادلي في بعض الأخبار المتعلقة بصاحبنا سيدي أو سيدي. ونعرف من التشوف أن من أصدقاء بن واندلوس بأغمات ومراكش: علي بن أحمد الصنهاجي، ومخلوف بن محمد الأنصاري، وكان جارا له، ويوسف بن عيسى القيسي، وعبد الوهاب الغاني…

كان هؤلاء المذكورون من معاصري سيدي أو سيدي في مراكش، رافقهم في ملازمة الشيخ أبي العباس السبتي، وسيدي يوسف بن علي، الذين كان لهما تأثير صوفي كبير في عصرهما، وأتباع كثيرون، ومنهم أبو محمد بن واندالوس الروداني، ولذلك أخذ هذا الأخير بمذهب السبتي في حياته. وقد بدا تأثير أبي العباس السبتي ومذهبه في الإحسان واضحا على بن واندلوس، حتى بعد رجوعه إلى مسقط رأسه تارودانت، حيث تفرغ للعبادة ونفع العباد بالإطعام والتصدق على المساكين ومساعدة المستضعفين والفقراء والمحتاجين..

قال ابن الزيات عن بن واندلوس: “لا يمسك شيئا مما يفتح له فيه… تصدق على المساكين بجميع ما ورثه من أبيه من أملاك، ولم يمسك شيء[3]، كما أورد عنه أخبارا أخرى تؤكد تمسكه بمذهب السبتي، وتأثره به إلى أن لقي ربه، وكان بيته في تارودانت محشرا للمساكين لا يفارقونه.

ذكر ابن الزيات التادلي أن ابن واندلوس صاحب أبا يعقوب يوسف ابن علي توفي 593هـ، بعد رجوعه من رحلته وهذا يعني أن سدي أو سيدي ارتحل قبل ذلك إلى الشرق لأداء الفريضة، ثم رجع ليلازم الشيخ مدة قبل وفاته في السنة المذكورة أعلاه، بمعية جملة من المريدين المذكورين في التشوف.

يستنتج أحمد بزيد في كتابه حول سيدي أو سيدي بأن  فترة رحلة بن واندلوس قد تتحدد بين سنتي 580-590هـ، فيكون قد ناهز الأربعين من عمره عند رجوعه من المشرق وحصرها فيما بعد سنة 591ه[4]، وهي السنة التي وقعت فيها (غزوة الأرك)، وابن واندلوس ما زال حيا سنتها، فقد أخبر بانتصار المسلمين في هذه الغزوة، وهذه آخر مرة رآه فيها ابن الزيات.

والذي يستفاد مما أورده صاحب التشوف، ابن واندلوس غادر حاضرة مراكش بعد سنة 591هـ، فرجع إلى تارودانت سنة 591هـ وهي السنة التي عاد فيها أبو محمد صالح بن واندلوس إلى بمسقط رأسه (تارودانت)، وتفرغ لخاصة نفسه بعد أن تصدق بكل ما ورثه من أبويه على الفقراء والمساكين، سيرا على نهج شيخه أبي العباس السبتي..

لكن الرغم من ندرة أخبار أبي محمد الروداني بن واندلوس في المصدر الوحيد الذي ترجم له، فقد برزت بعض ملامح شخصيته الصوفية وشفوفه الروحي من خلال النتف القليلة جدا، ولا أدل على ذلك من أن مؤلف التشوف أدرج ترجمته بين الرجال الصلحاء وأهل الورع  في الدنيا في عصره..

وكغيره من كبار الصلحاء فقد تردد ذكره في الأغاني الشعبية الأمازيغية والعربية، تسجل جلاله قدره وآثار فيض بركته وصلاحه وإحسانه كأحد الوجوه الفاضلة المؤثرة في الاجتماع الإنساني في عصره بفضل من الله..

رحم الله أبا محمد صالح بن واندلوس، كبير أولياء حاضرة  سوس وجازاه عن تارودانت والمغرب خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه..

يتبع في العدد المقبل..

——————————————————————————

1. التشوف إلى رجال التصوف، ص: 349. ط. التوفيق

2. المصدر نفسه، ص: 298-210.348، ابن عبد الملك، الذيل والتكملة السفر الثامن، القسم الثاني، ص: 431. رقم الترجمة 225.

3. نفسه ص: 348.

4. نفسه، ص: 347.

أرسل تعليق