Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

تعليق واحد

خصائص العمران

إن الجمع بين الاجتماع والعمران فكرا ومنهجا وتاريخا يساوي الحضارة في كل مميزاتها. ويكاد يجمع الباحثون المتخصصون في علم الحضارة أن دخول الإسلام على حياة العرب أثر فيهم بشكل كبير جدا، حتى إنه وحد بين مجموعة من الأجناس الحضارية التي كانت تشكل آنذاك المجتمع العربي، فجمع بخيط رفيع كلا من أبي بكر العربي الذي يمثل حضارة العرب، وصهيب الرومي الذي يمثل حضارة الروم (بيزنطة)، وخباب بن الأرت الذي يمثل حضارات ما بين النهرين، وسلمان الفارسي الذي ينتسب لحضارة الفرس، ومارية القبطية التي تمثل حضارة مصر، وبلال الذي قدم من أرض الحبشة..ولك من هؤلاء وغيرهم خصائص ومميزات ينفرد بها عمن سواه، ولكن الإسلام احتوى هذه الأمور كلها ونظر إليها نظرة متميزة تعبر عنه الآية الكريمة أصدق تعبير:( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير) [ سورة الحجرات : الآية13].

إذا كانت الحضارة التي جاء بها القرآن الكريم تشترك مع الحضارات الأخرى في مجموعة من الأمور، فإن لها خصوصيات تنفرد بها. وقد يطول بنا المقال إن نحن عددنا مميزات وخصائص الحضارة الإسلامية التي أنشأها القرآن الكريم، ولكننا سنقف عند أخص هذه الخصائص وأهم المميزات التي لا ترد إلا قليلا في المؤلفات التي تهتم بشأن حضارتنا:

    ـ أولا: الحضارة القرآنية حضارة توحيد بامتياز، وهذه الخاصية تميزت بها منذ نزول الآيات الأولى من كتاب الله الكريم في المرحلة المكية، والتي كانت تهدف إلى زرع العقيدة الصافية، عقيدة التوحيد الذي هو لب الإسلام وجوهره، ومن هنا كتب الأستاذ إسماعيل الفاروقي بحثا سماه «جوهر الحضارة الإسلامية»، أكد فيه على أن التوحيد هو الذي يعطي الحضارة الإسلامية هويتها، وهو الذي يربط بين أجزائها، وهو الذي يطبع كل ما يدخل إليها من عناصر فيؤسلمها ويطهرها فتخرج من عبورها في التوحيد متجانسة مع كل ما حولها. قديما وحديثا كتب مفكرونا آراءهم في جميع الميادين تحت عنوان التوحيد، وذلك لأنهم رأوا فيه المبدأ الأكبر الذي يشمل جميع المبادئ الأخرى، ورأوا فيه القوة الكبرى التي تفجرت عنها جميع المظاهر المكونة للحضارة الإسلامية.

ـ ثانيا: الحضارة القرآنية حضارة تربية وتكوين للإنسان، وقلما نجد باحثا يلحق هذه الصفة بحضارة من الحضارات الأخرى. لكن الذي يتتبع نشوء المجتمع الإسلامي، وتميزه، وتقدمه، وتحضره، لابد وأن يعترف للحضارة التي سادت في مكة والمدينة وبغداد ودمشق والقيروان ومراكش وقرطبة وإشبيلية وسمرقند وغيرها بالريادة في بناء الإنسان، وتكوينه وتربيته. بل إن الشيخ محمد الفاضل بن عاشور في كتابه القيم “روح الحضارة الإسلامية” يرى أنه إذا كان الناس اليوم يحنون إلى عهود ذهبية ازدهرت بها تلك العواصم، ويتحرقون على إحيائها وتجديدها، فأجدر بهم أن يعودوا إلى العامل الأصلي الذي ولد تلك العصور الذهبية، والذي بدونه لن تعود زهرة تلك العصور وينعها، ألا وهو العامل التربوي الإسلامي، الذي كون الفرد قبل أن يكون المجتمع، ومهد للثقافة طريقها، قبل أن يتناول عناصر المعرفة التي ألفت كيانها.

ـ ثالثا: الحضارة القرآنية حضارة صلاح وإصلاح، ولعل العامل التربوي الإسلامي السابق ذكره هو الذي أنتج حضارة وصفها المفكر محمد المبارك «بالحضارة الصالحة». وهذا الوصف تابع ولاحق للوصف السابق: (حضارة التربية)، بل هو نتيجة حتمية ومنطقية وموضوعية له. ويتجلى «صلاحها» في فسحها المجال لنمو العقل وتفتحه، واكتشاف آفاق الوجود، وهي التي تزيد من قدرة الإنسان على السيطرة على الطبيعة ليستثمرها لنفعه بعد أن يتحرر من سلطانها، وهي التي تمكنه من سيطرته على نفسه، وعلى غرائزه وأهوائه، وتفسح المجال أمام روحه كما فسحت المجال أمام عقله، وهي التي تزيد من تماسك الأفراد في المجتمع وارتباطهم وتضامنهم وتكافلهم. و«الحضارة الصالحة» هي التي تحقق هذا كله ارتفاعا وعلوا، بأن تشمل بتحقيقها أكبر عدد من الشعوب والأفراد.

 ـ رابعا: إن ما يميز كذلك الحضارة التي جاء بها كتاب الله المجيد هو كونها حضارة قيم نبيلة وأخلاق عالية، حتى إن محمد أسد (ليوبولد فايس سابقا) اقتصر في تعريفه لها (أي الحضارة) على أنه لا يقصد بها حدثا بذاته، أو نهضة بعينها مما استحدثه أهلها في أي قطر من أقطارهم، أو فترة من فترات تاريخهم، وإنما هي تلك النظرة الخاصة إلى الفضائل الخلقية، وذلك المنهاج الاجتماعي المتمايز، والأسلوب الذي رسمه الإسلام لحياة البشر.

والقيم التي أسست عليها حضارة القرآن الكريم إنما هي القيم الإنسانية التي تمثلها الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في حياته وأوصى بها أمته، وهي مقررة في الشريعة الإسلامية كتابا وسنة، تنظيرا وتطبيقا، وهي ضالة الإنسان المؤمن أينما وجدها فهو أحق الناس بها، فما عليه إلا أن يتأسى بها في بناء نفسه ومجتمعه بناء سليما يؤكد به صفة الأخيرية التي وصفت به أمته في القرآن الكريم.

 وهذه القيم هي التي تنمي خصائص إنسانية الإنسان، وهي التي تميزه عن غيره من المخلوقات، حتى أن الأستاذ حسين مؤنس في كتابه “الحضارة” يعتبر أن هذه القيم هي التي منعت الحضارة العربية الإسلامية من الزوال والأفول رغم الانتكاسات والهزات العنيفة التي عرفتها في تاريخها.

ـ خامسا: إن حضارة القرآن الكريم حضارة سلم وأمن وأمان، سواء على المستوى الداخلي أو في علاقتها مع محيطها الدولي الخارجي، جاءت لخدمة حياة الإنسان وتمتيعه بكل النعم التي سخرت من أجله، وتجمع بين الدنيا والآخرة جمعا عجيبا يدرك من يعرفه أن الحياة الثانية تتمة للحياة الأولى بما يدل عليه مصطلح “الحياة” من معاني ودلالات. وفي هذه الحضارة من جمال الاتساق وتمام الانسجام وبديع التوافق مع نظام الكون والحياة والإنسان ما يؤهل البشرية لإعمار الكون وإنشاء حضارة إنسانية رفيعة.

نستخلص في ختام هذا العرض المقتضب أن جوهر الحضارة القرآنية هو الحضور والشهادة بجميع معانيها التي ينتج عنها نموذج إنساني يوحد خالقه تمام التوحيد، ويسعى ليعيش بسلام وأمان مع نفسه ومع غيره، ويتحلى بالقيم التربوية والأخلاقية القرآنية النبيلة، ويسعى لطلب العلم ونشره بين الناس، ويتصف بالصلاح والإصلاح، وبذلك يكون دور الإنسان ورسالته هي تحقيق الخلافة عن خالق هذا الكون في تعمير أرضه وكونه، والحفاظ على كرامة الإنسان كما قررها خالقه سبحانه وتعالى، وتزجية معاش الناس فيها، وتحقيق تمام التمكين عليها والانتفاع بخيراتها وحسن التعامل مع المسخرات في الكون مصداقا لقول الله عز وجل:

(ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) [سورة الإسراء/الآية: 70].

التعليقات

  1. الجواد السرحاني

    بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .
    أما بعد فإني أحيي القائمين على شؤون هذه الجريدة الدينية، وعلى ما تحتويه من مواضيع قيمة تساهم في تنوير القلوب وتهذيب النفوس وتزكيتها، وأتمنى أن يضاف جناح للخطبة المنبرية يجد فيه الخطباء بغيتهم، مما سيضفي على المجلة رونقا وجمالا.
    وختاما أسأل الله عز وجل أن يبارك في جهودكم ويجعلها في ميزان حسناتكم.
    والسلام

أرسل تعليق