Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

ثنائية الإعلام والمدرسة، أية علاقة؟

      إن المنهج السليم – في بناء الأمة الحضاري، والمحافظة على هويتها وخصوصيتها الثقافية التي تضمن بها لنفسها الاستمرارية في الوجود – هو أن تتوحد جميع مؤسسات المجتمع التربوية من الأسرة والمدرسة والإعلام… حول منطلقات ثابتة وأهداف واحدة، بحيث تكون متناغمة في أدائها، منسجمة في وظيفتها، أما أن تعمل كل مؤسسة بكيفية نشاز، وتغني خارج السرب كما يقال، ووفق منطلقات فكرية مقطوعة الصلة بالأصول الثقافية المحلية، ووفق أهداف لا تنسجم مع تلك الأصول، ولا تخدم بناء الإنسان، وبناء المجتمع المتماسك، المعتز بانتمائه إلى دينه ووطنه (الرهان الذي تراهن عليه أمم الأرض) فإن العقد –لا محالة – سينفرط، وتسود الفوضى، وتعم النزعة الفردية والأنانية المقيتة، والتفكك الأسري والاجتماعي، وتختفي معالم الشخصية، وتذوب في طاحونة العولمة، وتفقد وجودها وتصبح في خبر كان لا قدر الله، وهي النذر التي تلوح في الأفق، وبدأت تترجم سلوكات على أرض الواقع، وستفعل فعلها في الجسم الحضاري للأمة، إن لم نتدارك أنفسنا، ونسارع إلى التأسيس لنهضتنا، وذلك بتحديد مداخل سليمة، واختيارات صحيحة، والتحلي بقيم الصدق والوفاء والإخلاص لأمتنا ووطننا.

     وإذا أردنا أن نشخص أسباب الظاهرة، أي ظاهرة التفكك الاجتماعي، والخور الإرادي، وانفصام الشخصية المريب الملاحظ في أكثر من مجال من واقعنا؛ فإننا لا بد وأن ننظر إلى كيفية اشتغال المؤسسات الاجتماعية الفاعلة، وسأقتصر على الأقوى تأثيرا في الواقع، ألا وهي المدرسة والمؤسسة  الإعلامية (الإعلام)، وحتى نقترب من تحديد الإشكالية، ونسهم في تسليط الضوء على مكامن الخلل فأرى ضرورة طرح الأسئلة الآتية:

     1.  ما مفهوم الإعلام؟ وما أنواعه؟

     2.  ما علاقة الإعلام بالمدرسة؟

     3.  وأي دور تربوي لكل منهما؟

     4.  وكيف نعيد اللحمة إلى مؤسساتنا التروية؟

     1.  الإعلام كسائر المفاهيم ذات الحمولة الفكرية الواسعة، لذا تعددت تعاريفه وتنوعت بحسب تعدد الخصائص والوظائف المتطورة للإعلام،[1] وأيضا تعددت استعمالاته لاختلاف الأيديولوجيات المهيمنة على الجغرافيا، فالولايات المتحدة مثلا، تصر على استخدام مصطلح “وسائل الاتصال الجماهيري” بدل الإعلام، وفرنسا تستخدم مصطلح “الإعلام” دون غيره، وعموما فإن “الإعلام” يعرفه د. عادل عامر بقوله:

     “تقديم الأفكار والآراء والتوجهات المختلفة إلى جانب المعلومات والبيانات بالصوت والصورة والإشارة وكل الأساليب الممسكة بلب المتلقي… بهدف تكوين قناعات وأفكار لديه، يفترض أنها صائبة ليتصرف وفقها…”.

     وبحسب وظيفته الأساسية المتمثلة في نقل المادة الإعلامية وإيصالها إلى المتلقي يمكن تقسيمه إلى قسمين رئيسيين هما: إعلام موضوعي وآخر دعائي.

     أ‌.  الإعلام الموضوعي: يقوم هذا النوع على تزويد الناس بأكبر قدر من المعلومات الصحيحة، والحقائق الواضحة، والأخبار الصادقة فيكون بذلك أمينا يخاطب العقل لا الغرائز، يؤدي رسالته الإنسانية والمهنية بأمانة؛

     ب‌.  الإعلام الدعائي الاستهلاكي: وقد يقوم بتزويد الناس بقدر هائل من الأكاذيب والضلالات، وأساليب إثارة الغرائز، ويستعمل أساليب الخداع والتزييف والإيهام، وإثارة الأحقاد والصراعات بين الشعوب والأمم، فيغري بالعداوة بدل التحاب والتعاون، ويفرق ولا يجمع، وفي هذه الحالة وما أكثرها، يتوقف الجهد الإعلامي الموضوعي، وينشط الجهد الإعلامي الدعائي الذي يتجرد من القيم الإنسانية؛ بل حتى من قيم المهنة، في حين يتعين على الإعلام بجميع وسائطه وأشكاله أن يحترم القيم الدينية للمجتمع الذي يتوجه إليه برسائله ليكون بذلك منسجا في أهدافه العامة مع أهداف المؤسسات التربوية الاجتماعية الأخرى، التي يفترض أن تكون منظوماتها متكاملة في غاياتها وأهدافها بما لا يتعارض مع ثوابت الأمة الثقافية، وآدابها العامة.

     2.  وحتى يكون كذلك، ويؤدي الإعلام دوره التربوي، فأين يتقاطع مع المدرسة؟ وما خصائص كل منهما؟

     •    كل منهما علم وفن، فالإعلام علم؛ لأن أسلوبه ومناهجه تستند إلى نظريات علمية، ودراسات نفسية واجتماعية، في تحديد المشكلة الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية المطلوب مواجهتها إعلاميا، ومن ثم وضع خطة لها بكيفية محكمة، وهو فن أيضا[2]؛ لأن جميع أعماله تتوفر على درجة عالية من الفنية لتصل إلى المتلقي بسلاسة، وليقبلها بدون تحليل.

     وما يقال عن علمية وفنية الإعلام يقال علمية وفنية العمل التربوي المؤسساتي المدرسي.

     غير أن الإعلام يتميز بالدينامية المتجددة، ويمتلك القدرة الفائقة على الابتكار المستمر في أساليب العرض ووسائله المشوقة والنافذة من: الصورة، وحسن العرض وتطوير الأداء، تعزز كل هذا ضخامة الإمكانات المادية، وفى المقابل تفتقر المدرسة إلى الحد الضروري من الإمكانات المادية بفروعها المتعددة، وهذا يعيقها عن أداء رسالتها المنوطة بها، لكن رغم كل ذلك، ورغم كونها تتسم بالسكونية؛ فإن عملها رصين، يسير وفق سياسة معلومة، وخطط مرسومة، ومناهج مقننة تخدم فئة متقاربة من الناس، على حين أن الإعلام جذاب لكنه هزيل يتسم بالتقلب، والهروب من الواقع، والاستغراق في الخيال، وفي الإثارة الجنسية الهابطة، غالبا، ينشر قيما سلبية تؤثر على سلوك الأطفال، ويهدم في المساء ما تبنيه المدرسة في الصباح، وهو ما يعيق دور المدرسة.

     –  ويمكن القول أيضا: بأن العملية الإعلامية –في بعض جوانبها عملية تربوية، والعملية التربوية في بعض جوانبها عملية إعلامية؛

     –  الإعلام ليس غريبا على المدرسة، فقد تطور عن التعليم والتربية، بعد أن حدثت أربع ثورات في تاريخ التربية والتعليم هي:

     •    انتقال التريية من الأسرة إلى المدرسة، ثم اختراع الكتابة، ثم اختراع الطباعة وظهور الكتاب، ثم ظهور وسائل الإعلام الحديثة كالراديو والتليفزيون، ثم انصهرت كلها في النهاية في ثورة الأنترنيت والوسائط المتعددة.

     3.  أما دور كل من الإعلام والمدرسة فيتلخص في النهاية في:

      •    تحقيق الأمن النفسي للأفراد والمجتمعات بشتى فئاتها وأعمارها، وهذا لا يتأتى إلا بوضع سياسات تربوية وإعلامية تحترم قيم الأمة وضميرها؛

      •    الارتقاء بفكر المتلقي وعواطفه، وذلك من خلال احترام عقله والتزام الصدق في الخبر متمثلا قوله تعالى: “يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين” [سورة التوبة، الآية: 119]. وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديق وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا”.

     –  أن يكون إعلامنا منتجا لما يغذي أرواح المتلقين وعقولهم من أطفالنا وشبابنا… لا مستهلكا لإنتاج الإعلام الغربي الذي غالبا ما يحمل رسائل قوية التأثير بمضامينها الهابطة، بفضل ما يملكه ذلك الإعلام من تكنولوجيا متطورة ومؤثرة بالغ التأثير ، لدرجة أن المشروع الغربي كله في عهدة الإمبراطوريات السمعية البصرة[3] ماحدا ببعض الدول الغربية نفسها أن تعلن تحفظها الشديد بعد توقيع اتفاقية “الكات” والتي تقضي بحرية مرور كل شيء بين الدول، حيث قامت ثورة عنيفة بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين فرنسا حول مجال السمعي البصري! والسؤال الذي يطرح بحدة هو: إذا كانت دولة غربية مثل فرنسا تخشى على أبنائها من تأثير الإعلام الأمريكي وهما ينتميان إلى مرجعية ثقافية واحدة، فما ذا نقول نحن عن فتح الأبواب على مصاريعها في وجه هذا الكاسح والمدمر ومرجعياتنا الثقافية متباينة تمام التباين؟؟

     ويزيد مهدي منجرة تحدي الإعلام المعاصر وضوحا فيقول: إن العالم يتجه باضطراد نحو مجتمع الإعلام، وهي مرحلة جديدة في تطور الجنس البشري يصطلح عليها بالمرحلة الثالثة، فبعد الزراعة  كان التصنيع ثم الإعلام[4]؛

     – والمطلوب من إعلامنا –إن كان لنا إعلام– أن يقوم بدوره في تثقيف شبابنا، وتنمية قدراتهم العلمية والثقافية، وتعميق الانتماء للدين والقيم والأخلاق والوطن، وتنمية الثقة بالنفس والاعتزاز بالهوية، وأن يجمع بين هذا وحتمية الانفتاح على الثقافات الأخرى في مختلف تمظهراتها وامتداداتها، وهي على الإجمال لا التفصيل ولا تختلف عن أدوار المدرسة، فهما مؤسستان اجتماعيتان يفترض أن تعمل كل منهما وفق منظومة متكاملة بهدف المحافظة على هوية الأجيال، والتوافق بين التصور والسلوك، لتعبر -بصدق- عن الانتماء إلى أمة الشهادة على الناس.

     خلاصـــات:

     •    إن المتأمل للواقع يلاحظ بيسر، أن جميع المؤسسات التربوية في مجتمعاتنا بدءا بالأسرة وانتهاء بالإعلام، قد انحسر دورها التربوي، وهي أشبه بالأجهزة المعطلة، ولم تعد تشتغل  بكيفية يسمع صوتها بوضوح، ويرى مردودها بجلاء؛ لأن بعضا منها لم يستوعب تحديات المرحلة فيخطط لها (مثال الأسرة)، والبعض الآخر قد يكون على وعي منها لكنه استساغ القبول بالدعوات التي تغري بالانخراط في الكونية، والتخلي عن المشاريع الوطنية المنطلقة من الخصوصيات الثقافية المحلية؛

     •    إن المدرسة بوضعها الحالي وفي جميع الأطوار والأسلاك، لا يمكن أن تحدث تطورا وتغييرا في البنية الاجتماعية ما دامت هي غير مستجيبة للتطور والتغيير، وأقصد بالتطور، التطور نحو الأمثل، وذلك باعتماد فلسفة تربوية مستمدة من ثقافة المجتمع الذي تنتمي إليه، وبناء مناهج وبرامج تتوافق مع أصول تلك الثقافة، مع الانفتاح على تجارب الآخرين في ميدان البحث العلمي والتقني؛

     •    إن واقع إعلامنا بألوانه وأشكاله ليدعو إلى إعادة النظر في صياغة رسائله الإعلامية، وكذا أدائه بشكل يراعي قيم الفئات المستهدفة، وآدابها العامة، ويراعي كذلك الأهداف التربوية لمؤسسات أخرى، حتى لا يتعارض أداؤه مع منظومة القيم المجتمعية التي يفترض أن تحكم الأسرة وجميع مؤسسات المجتمع.

                                                                                                                                        (يتبع)

———————-
1.    لا أدعي الإحاطة بالموضوع.
2.    الفن في معاجم اللغة، كل متقن من الأعمال.
3.    محمد فاضل رضوان، مجلة الحوار المتمدن.
4.    مهدي منجرة، المرجع السابق.

أرسل تعليق