Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

الوزير الغساني

      في المقالة السابقة من سلسلة “علماء وصلحاء” بجريدة ميثاق الرابطة (عدد 73)، كنت قد عرّفت بالعالم الكبير أحمد المنجور وفهرسه، وقلت أنه كان أستاذا للسلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي، وفي هذه المقالة سأعرف بالطبيب الخاص لهذا السلطان المتوفى سنة 1603م، يتعلق الأمر بالعالم النباتي الطبيب المعروف بالوزير الغساني.

      ولد أبو محمد (أبو عمر) القاسم بن محمد الوزير الغساني خلال النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي بمدينة فاس، وتوفي سنة 1610م؛ كان يشغل مهمة الطبيب الخاص، ووزيرا في الآن ذاته، للسلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي الذي تجول في المغرب برفقته مما مكنه من تحصيل ثقافة نباتية كبيرة.

      بالإضافة إلى علمي النبات والطب مهر الوزير الغساني في الدراسات اللغوية التي لا شك ساعدته في ضبط أسماء النباتات باللغة العربية الفصحى واللهجات المحلية، في ذلك يقول الأستاذ محمد الفاسي: “في أيام السعديين انبعثت نهضة جديدة للعلوم والآداب –بعد ركود ناهز القرنين من الزمان-، وممن مهر من علماء اللغة في هذا العصر أحد كبار أطباء المنصور السعدي ووزرائه أبو عمر القاسم بن محمد ابن إبراهيم الغساني من أهل فاس، وقد كان بيت الغساني بيت علم ووزارة وكتابة، وقد تقلد كثير من رجاله خطة الوزارة حتى صار يطلق على هذه العائلة اسم الوزير وهم لا يزالون موجودين إلى اليوم بفاس حيث يعرفون بأولاد الوزير. أما أبو عمر هذا فقد اشتهر بكتاب في المفردات الطبية. وهذا النوع من الأبحاث اللغوية ازدهر بالمغرب وله فائدة عظيمة إلى الآن ذلك أن الذين اشتغلوا به لم يكونوا رجال علم نظري فحسب يكتفون بالرجوع إلى المصادر المكتوبة، بل كانوا في نفس الوقت علماء نباتيين وأطباء وكيماويين، يقفون بأنفسهم على الأعشاب والأحجار والحيوانات التي يحتاجون إليها في تركيب أدويتهم، ويعرفون أعيانها وأسماءها باللغة العامية، وهكذا يستطيعون تطبيقها على أسمائها العربية الفصيح (محمد الفاسي، تاريخ الدراسات اللغوية بالمغرب الأقصى مجلة دعوة الحق، عدد: 32، 1960).

      ألف كتاب “حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار” للوزير الغساني طبيب البلاط السعدي بالمغرب الأقصى إبان حكم السلطان أحمد المنصور الذهبي، الذي يبدو أنه شجع نشر هذا الكتاب في إطار مشروع “إصلاحي” لقطاع الطب والصيدلة بالمغرب فيما يمكن اعتباره تنظيما وتقعيدا لقطاع عرف ضعفا كبيرا في مراحل اللا -استقرار السياسي التي عرفها المغرب في أواخر الحكم المريني وخلال العصر الوطاسي، هذا من جهة؛ من جهة أخرى نلاحظ أن كتاب الوزير الغساني  يتميز بدقة علمية تسود معظم أجزائه، وهو أمر يعبر عن الخبرات التي اكتسبها من خلال رحلاته الاستكشافية المتعددة التي  قام بها  في الميدان.. وقد اختصر الوزير الغساني كتاب “حديقة الأزهار” “في كتاب سماه “كشف الرموز”.

      في دراسته حول تاريخ الطب بالمغرب يصرح العالم رونو أن المغرب في العهد السعدي عرف في بدايته ركودا في ميدان العلوم الطبيعية، وهو على الحقيقة ركود موروث عن الفترات السابقة -منذ أواخر العصر المريني وخلال العصر الوطاسي- وعرفت هذه الحقبة انحسارا للعلم والمعارف بفعل الفوضى السياسية والاجتماعية التي عرفتها البلاد. ويستثني رونو في دراسته أسماء عالِمين برزا خلال العصر السعدي هما ابن عزوز عبد الله المراكشي المعروف بـ “بَلّا”، وهو مؤلف كتاب “ذهاب الكسوف في الطب”، وصاحبنا أبو القاسم الوزير الغساني صاحب كتاب “حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار” الذي يقول عنه رونو أنه: “كتاب ذو منهج واضح في وصف وتصنيف النباتات، ويتميز بأصالة علمية بادية. إنه تصنيف مهم متكون من ثلاث مستويات، يضيف إلى ما تقدمه كتب النباتات الطبية العربية القديمة عنصرا جديدا يتمثل في توثيق جل المواد الصيدلية المتوفرة في مدينة فاس” (Renaud H.P.G. état de nos connaissances sur l’histoire de la médecine ancienne au Maroc. Bulletin de l’Institut des hautes études Marocaines. Paris, N°1, Décembre, 1920, p 71-83.).

      بالإضافة إلى الاهتمام الذي أبداه العالمMieli  لكتاب الوزير الغساني ضمن كتابه الموسوعي: La science chez les arabes et son influence sur le développement de la science mondiale. كما تجدر الإشارة إلى مقدمة التحقيق المفيدة التي كتبها محقق كتاب “حديقة الأزهار” الأستاذ محمد العربي الخطابي، والدراسة التي قام بها الباحث عبد الأحد الرايس حول كتاب “حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار” للوزير الغساني، ونشرت الدراسة في مجلة التاريخ العربي المغربية (عدد 18، 2001)، وهي دراسة مفيدة من حيث إبرازُها الفوائد التاريخية والاقتصادية المستخلصة من كتاب “حديقة الأزهار” فيما يتعلق بالحياة الاجتماعية في مغرب القرن السادس عشر الميلادي وبالخصوص في مدينة فاس.

      صنف الغساني ثلاثة كتب كلها في الطب والأعشاب، أهمها كتاب “حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار”، وقد أنجزه في شهر محرم عام 994 هـ/ 1585 م وألفه برسم خزانة السلطان أحمد المنصور الذهبي. ذكر المَقَّري في “روضة الآس العاطرة الأنفاس، تحقيق عبد الوهاب بن منصور، الرباط، 1964 ” كتاب “حديقة الأزهار” فقال عنه: “كتاب عجيب في بابه لم يؤلَف مثله، يذكر سائر الأعشاب والعقاقير بما سميت به في الكتب، ثم يذكر اسمها بلسان عامة الوقت، ثم يذكر خواصها على وجه عجيب، ولقد وضع الغساني مختصراً لهذا الكتاب ليكون في متناول الطلبة”.

      ومن مزايا كتاب الوزير الغساني ذكره الأسماء المتعددة  للنبات الواحد ووصفه البيئة التي تنبت فيها النباتات، ويذكر اسمها الشائع على لسان العامة في المغرب بالدارجة المغربية –خصوصا لهجة أهل فاس- أو باللسان الأمازيغي، وبعد أن يوضح ماهية المادة النباتية ينتقل إلى بيان طبيعتها وأخيراً يذكر خواصها ومنافعها الطبية أو مضارها إن اقتضى الحال من غير دخول في التفاصيل المتعلقة بالمقادير وطريقة التحضير إلا نادراً، ثم يختم بذكر بدلها succédané إذا تعذر وجودها. ولم يهتم الوزير الغساني بالمواد الحيوانية و المعدنية إلا نادرا. وقد تناول الغساني في كتابه بالشرح نحو 380 مادة مفردة معظمها من جنس النبات، وعدد المفردات الحيوانية والمعدنية التي ذكرها في كتابه سبع…

      والحق يقال أن هذا الكتاب يعتبر من ذخائر التراث العربي-الإسلامي في علم الأعشاب والعقاقير، صنفه طبيب مغربي متمرس في علمي النبات والطب، سلك في كتابته أسلوباً علمياً دقيقاً معتمداً في ذلك على المصادر العربية الرائدة في علمي الطب والنبات، ومعتمداً أيضاً على المعاينة والملاحظة المباشرة عبر الرحلات الاستكشافية التي كان يقوم بها… فنجده في عدة مواضع يقول مثلاً: “ولقد رأيته كثيراً ووقفت عليه بجبال تاغيا وقطفته هنالك بيدي”..، و “قد رأيت منه شجرة واحدة عندنا بفاس..”. كما أننا نجده في حالات أخرى ينقل عن مصادر موثوقة يختارها. من ذلك مثلاً: “ولقد حدثني والدي… أنه رآه ووقف عليه..”، وفي مكان آخر: “وحدثني والدي.. أنه رأى أخرى”. ومما أثارني عند دراسة كتاب الوزير الغساني هو وقوفه في غابة المعمورة -قرب مدينة سلا- بالمغرب على شجيرة الكُمثري (الأجّاص)  البري Pyrus mamorensis الذي يبدو من خلال اسمه العلمي أنه خاص بمنطقة المعمورة ولا يوجد بغيرها، يقول  الوزيرالغساني: “والبري هو الإنْجاص الشتوي المعروف، منابته الغاب والأرض المكللة بالشجر، ولقد رأيته ووقفت عليه بغابة المعمورة بقرب مدينة سلا”، وهذه معلومة بالغة الأهمية من حيث التوطين الذي يقدمه الوزير الغساني لنبتة قبسية Endémique   في مغرب القرن السادس عشر..

      ونجد الغساني في مواضع أخرى عندما يتعلق الأمر بمواد مستوردة من بلاد بعيدة، لا يكتفي دائماً بالنقل عن كتب القدماء الموثوق بها، بل يجتهد في تعرّف تلك المواد عند باعة العطور والأعشاب والمواد الصيدلية؛ كما أنه يلجأ إلى سؤال الرحالة والتجار لاستكمال معلوماته حول المواد النادرة التي أغفلها سابقوه؛ ومن ذلك ما يحكيه عند تعريفه خرّوب السودان: “لم يذكره أحد من الأطباء القدماء والمتأخرين إلى هلم جراً، وإنما استخرج بعدهم، حدثني من أثق به من التجار المسافرين للسودان أن شجرته تشبه شجرة النارنج شكلا وورقا..”.

      انفرد كتاب “حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار” بميزة فريدة تتجلى “في اصطناع المؤلف منهجاًً لتنصيف النبات تصنيفا علميا -وهو ما يسمى اليوم، بالنظام التصنيفي La systématique ذلك أنه كثيرا ما يعمد إلى تعيين جنس العشبة ونوعها، ويطلق لفظ “الجنس Genus بالإنجليزية أو Genre  بالفرنسية- على ما يطلق عليه علماء النبات المحدثون “الفصيلة”، والحقيقة- كما يرى محقق “حديقة الأزهار- أن منطق اللغة العربية يقتضي أن يكون الجنس أعم من الفصيلة، فهو مثلا، يطلق على ما يسمى اليوم في اصطلاح علماء النبات “بالفصيلة القرعية Cucurbitacées، جنس اليقطين ويدخل فيه القَرَع والدُّباء والقِثّاء والخيار والبطّيخ والحنظل وما إليها، ومما لا شك فيه أن اليقطين أعم من القرع، فهو كل نبات يمتد على الأرض ولا ساق له، فكان المنطق يفرض على واضعي المصطلحات من المعاصرين أن ينعتوا هذه الفصيلة بـ “اليقطينية” لا القرعية..”.

      ولتقريب القارئ الكريم من منهج الوزير الغساني في كتابه “حديقة الأزهار” أقدم نموذجا لطريقته في وصف النباتات الطبية، يقول عن نبات الأترج:  شرح الماهية: من جنس الشجر، ومن نوع الشجر الشائك، وهو مشهور معروف يسمى عند العامة التُّرُنج (بضم التاء والراء) وبالبربرية بفتحها وبالعربية الفصحى أُترُّج. وثمره له أنواع: دقيق، وجليل، ومدحرج، وطويل. طبيعته: حار في الأولى رطب في الثانية، وقيل بارد؛ منافعه وخواصه: بالنظر إلى ثمر الشجرة وورقها وكثرة جوهرها واختلاف أجزائها، فخاصية قشر ثمره تقوية القلب، والأمعاء والمعدة ويسكن الغشى والخفقان، ويذهب برائحة الفم، وإذا جعل في الثياب منع التسوس فيها وإذا حرق وعولج به البرص طلاء نفعه، وخاصية لحمه تطفيه الصفراء والتهاب المعدة، وخاصية بذره النفع من السموم وخصوصاً من سم العقرب إذا شرب منه مثقالان بماء فاتر وضمد به موضع النهشة. وخاصية ورق شجره  يفتح السدود ويوسع الأنفاس وينفع من الخفقان ويضر بالكبد، إصلاحه بالعسل. ومن نوع الأترج: النارنج، وهو من جنس الشجر وأنواعه كثيرة: سكري ومائي وورقه يشبه ورق الأترج إلا أن ورق الأترج أعظم، وورق النارنج أشد ملامسة وأعسر فركاً، وفي طرف كل ورقة منه من ناحية الغصن وريقة صغيرة منفصلة عن الكبيرة ويسمى عندنا بفاس النرنج -بغير ألف- وله زهر عطر الرائحة تقطر منه المياه كمياه الورد يسمى بماء زهر وثمره مدحرج الشكل كثمر الحنظلة ولونه قانئ قليل اللحم كثير الشحم شديد الحموضة فما كان منه كثير الماء قيل فيه مائي وما كان قليله قيل فيه سكري”.

      وقد امتاز الغساني “بالوضوح في الوصف، والاقتصاد في التعبير، وسلك مسلكا جعله يهتم بالزهور والثمار والبزور والجذور والأوراق، ويلاحظ وجود نباتات طفيلية، ولا يخوض فيما لم يشاهده ولم يعرفه، ثم إنه قد اهتم بالبيئة الطبيعية التي تعيش فيها بعض النباتات، وهو ما يطلق عليه علماء النبات المعاصرون: Biotope.

      والظاهر من خلال دراسة الكتاب أن الوزير الغساني استخلص منهجه التصنيفي من كتاب سابق هو “عمدة الطبيب في معرفة النبات” لأبي الخير الأشبيلي، وهنا ندرك سبق الوزير الغساني إلى اختيار كتاب “عمدة الطبيب في معرفة النبات” من بين كتب علم النبات المتداولة في عصره، فأحيى بذلك كتابا ظل “صامتا” لقرون، وهذه قيمة مضافة تحسب للوزير الغساني..

      هناك قيمة علمية أخرى لكتاب “حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار” تتمثل في جرده للنباتات الطبية التي كانت منتشرة عند باعة الأعشاب والعطارين والصيادلة في عصره خصوصا في مدينة فاس، بالإضافة إلى معلومات وافية يقدمها المؤلف حول أماكن جلب النباتات التلقائية والمستوردة، ومعلومات حول التجارة في فاس خلال القرن السادس عشر والعادات الحضرية لأهل فاس.. ولا يخفى ما لهذا العمل من فوائد اقتصادية واجتماعية وأنثروبولوجية..

      إن معظم النباتات التي جردها الوزير الغساني قد عاينها ميدانيا بنفسه خلال رحلاته المتعددة، كما اعتمد على معلومات والده الذي يغلب على الظن أنه كان طبيبا (Jamal Bellakhdar, la Pharmacopée marocaine traditionnelle, Ibis Press, 1997). من بين الأمكنة التي وطن الوزير الغساني فيها بعض النباتات: جبل زَلاغْ  والمعمورة ومولاي بوعَزّة ودَبْدُو وبني تاجِيت، وهي أماكن لازالت تعرف بنفس الأسماء إلى اليوم.

      جديرة بالطرح مسألة الأصول الفكرية للوزير الغساني وفق منطق تاريخية الفكر وابستيمولوجيا العلم، ولنا أن نتساءل عن استفادة الوزير الغساني ممن سبقه من علماء النبات العرب والأجانب. في هذا الإطار نورد ما ذكره الباحث رونو Renaud الذي خص كتاب “حديقة الأزهار” للوزير الغساني بدراسة قيمة(Renaud H.P.G. Un essai de classification botanique dans l’œuvre d’un médecin marocain du XVIème siècle. In mémorial Henri Basset, II, Paris, 1928, pp. 197-206.  . يقول رينو: “يعد الغساني ذهناً متميزاً إذا قيس بعصره وبينته، والحكم على أثاره لا يتأتى دون مقارنتها بالعديد من مصنفات المادة الطبية لمؤلفين عرب آخرين، نعم، إنه إن لم يصل إلى حد يجعله يتبين بوضوح تام ما للزهرة من أهمية راجحة، ولا سيما أعضاء الإخصاب التي تكمن في أحشائها، حتى يتمكن من وضع قاعدة صحيحة لنظام التصنيف النباتي فهو يطلق اسم الخيوط على المدقات (المَياسم) والأَسْدِية étamines et stigmates ويخلط بينهما إلا أنه قد استخلص بوضوح فكرة التسلسل في خصائص النبات من جهة، كما أدرك من جهة أخرى مفهوم القرابة القائمة بين أنواع النبات بحيث يضمها تحت تسمية واحدة بواسطة تلك الجموع الطريفة التي صنعها”.

      وبعد، فهدفي من هذه المقالة المركزة التعريف بعلم من علماء علم النبات الطبي بالمغرب، وقد رمت من خلال ذلك إثارة الانتباه إلى الأهمية العلمية والتاريخية لكتب النبات والطب المغربي، ومن جهة أخرى التأكيد على ضرورة الاستمرارية العلمية عبر ربط الماضي العلمي المغربي العظيم بحاضره الضعيف على المستوى العلمي على أمل تحقيق نهضة علمية مغربية في المستقبل إذا ما تعاقدت الهمم العالية على تحقيق ذلك بتوفيق من الله..

      توفي الوزير الغساني بحاضرة فاس سنة 1610م، رحمه الله وجازاه عن المغرب والإنسانية خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه.

أرسل تعليق