Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

الضعيف في دنياه فقير.. (1)

الضعيف في دنياه فقير.. (1)

الأمة، وعندما أقول الأمة أعنيها في عمومها، تعيش في ماضي الزمان أكثر من عيشها في الحاضر، وأكثر كثيرا، والآخرة أكثر استيلاء على أبنائها وبناتها وعلى تصرفاتها من الحياة الدنيا، وهي مع ذلك تسلك مسالك غير متوازن، مما يؤدي إلى خراب الدنيا والآخرة معا، غاب عن ذهنها أن الدنيا قوة، والآخرة تقوى، ولا تقوى صادقة للآخرة، إلا بقوة في الدنيا.

والضعيف في دنياه فقير وهو ذليل، والتقوى الحق أن يكون الإنسان مرفوع الهام، أما الضعف فهو معيار الذلة، والأمة الغنية بعملها الكاسبة لشعوبها، المالكة لأمرها لا تعوزها الحيلة التي من خلالها تعرف كيف تتصرف في دنياها، لماذا لا تكون مثل أهل الأرض، تدور بينهم وتعيش كما يعيشون، وتفكر كما يفكرون، وتعمل في كل مناشط الحياة كما يعملون، أما آن الأوان لأمة أن تنهض النهضة الواجبة لترمي عن أكتافها إلى الأرض ما أثقلتها به السنون العجاف.

إذ لابد للأمة أن تدرس أحوالها دراسة واعية مما هو أعمق وأبعد في الزمان والمكان، دراسة تتخطى الأيام والسنين وتخترق الحقب والقرون، في مواجهة أمم الشرق والغرب سابقة بعيدة السبق موغلة بيننا وبينها ألف عام. وفي عصرنا هذا الفرصة مهيأة لتبني الأمة اقتصادها من جديد ثم لترتفع به، فيزدهر فوق ما ازدهر اقتصاد أهل الشرق والغرب، وعندي أن الأمة سوف تتوب إلى رشدها بعد أحقاب من اللف والدوران والغدر والكذب والخيانة، حتى استحال سماؤها إلى مأتم، تراكمت سحائبها وتلبدت غيومها، وأساء الظن بها القريب والبعيد والعدو والصديق، فهي أساءت فهمها لنفسها فأساء الآخرون فهمهم لها، فهي لا تعرف كيف تعاشر الناس وتداريهم، وتأخذ ما صفا وتتغاضى عما كدر، ومن لا يحتال للحياة لا يستجلب السعادة، فضاقت ببنيها الصحراء والفيافي بعد أن ضاقت بهم الحواضر.

كما أن هذه الأمة لا تستطع أن تأخذ بأسباب التحضر فبقيت على حالها لم تقدم لذويها نهضة دينية تجديدية تلاءم مقتضيات العصر الحديث، وتبين أنها لم تفهم الإسلام على وجهه الصحيح فكانت حائلا معوقا حتى لا ينمو نموا طبيعيا وألا يتقدم تقدما يجمع بين المصالح المتجددة للحياة العملية، والمطالب العالية للنفس الإنسانية، إنها أمة قاعدة على الرمضاء وهي تضحك فاستحال ناسها إلى قطع من الصخر الملقاة في فلاة لا صوت لهم ولا حس.

لم يعد هناك دم في العروق ينبض، وأعصاب الرؤوس تقطعت فكيف ترجو منها النخوة والعزة وحمية الكرامة، إن القوة الضاربة لأي أمة لا يمكن أن تحوز معناها الحقيقي إلا إذا كانت نابعة من نفس الأمة وذاتها، فمثل هؤلاء القوم لا يرجى منهم فائدة، إن إنسان الأمة الحاضر آلة صماء بيد القوة التي عطلت مواهبه، والتي عملت على وصول الأمة إلى ما وصلت إليه من بؤس وهوان، إنه ذلك الجبن المناهض لآليات التقدم لأنه الهمة منه ساقطة.

لقد أمعنت فكري لتشخيص داء الأمة وتحري دوائها فوجدت أن أقتل أدوائها، وما يعترض توحيد الكلمة فيها، داء انقسام أهلها وتشتيت آرائهم، واختلافهم على الاتحاد، واتحادهم على الاختلاف، فقد اتفقوا على ألا يتفقوا، ولا تقوم على هذا لقوم قائمة، فالأمة ينقصها كل شيء فالخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية شبه معدومة، ودخل الفرد ينخفض إلى أدنى حد في العالم، وإلى جانب هذا تحيط بها الكوارث والنكبات من كل صوب فنكبة الأمة في شبابها المهاجر على قوارب الموت قلب جميع الموازين، وهكذا طال ظلام ليل الأمة موحشا كئيبا.

إن مجتمعاتنا مجتمعات غريبة متوقفة عن الحياة لعشر قرون من الزمان تنتظر قفزة تخرج بها من الجمود والسلبية، إلى الإيجابية والتفاؤل والعمل في سبيل مستقبل أفضل، هذه المجتمعات المقفلة تخفي وراءها صراعا فكريا مريرا صامتا بين الشيوخ والشباب الذين يعيش كل واحد منهم في واد.

فالشباب المثقف الذي تعلم حائر، يريد تطبيق ما شهده وتعلمه، ولكنه لا يستطيع، فأمامه عراقيل وعقبات متمثلة في التقاليد والعادات، شباب يحس مرارة الحياة فلا تحرر ولا انطلاق، ولا تقدم ولا التقاء بل قيود مفروضة على كواهله، وعوامل شتى لا حصر لها تذكي راوسب الماضي وتزيد من تفاقم الأخطار، وموانع مصطنعة تحول دون التقائه مع شباب الدنيا،

إن أهلنا في صراعهم من أجل الانطلاق والتحرر من عقدة الخوف والتردد، ذلك لأنه لما نبشنا لهم كنوز تاريخهم، وفتحنا لهم صناديق ماضيهم وأخرجنا لهم كل ما فيها من حضارات وبطولات، ولم نفتح لهم باب العلم والتقنية وسبيل الرزق، فإن تاريخهم يكون باطلا وماضيهم وهما وسرابا.

إن المسؤوليات الجسام آخذة في التكاثر على أكتاف الشباب؛ لأن أمة بكاملها تئن تحت ضائقة الفقر والتأخر والتشريد، وهي في حاجة إلى نجدة طبية وعلمية وفنية وتقنية واقتصادية واجتماعية وثقافية، تنادي صباح مساء: أنقذونا بالأفعال لقد صكت آذاننا الأقوال، ونحن لا زلنا لم نخرج من خلف الصخور ننتظر تأشيرة الدخول إلى عالم الآمال والعمل، وتوديع زوايا الإخفاق وأوحال الانحطاط وآلامه، إن أمتنا تمر بأصعب وأدق فترة في تاريخها، فترة يتصارع فيها الماضي والحاضر، وتتشابك فيها الآمال والوعي والاندفاع الشبابي ليواجه جمود الجامدين الذين يمثلون مرارة الواقع من تأخر وتردد ونكبات ترج البلاد والعباد رجا.

وفي حال كهذا نشاهد شبابا متوثبا عنده استعداد هائل لتطوير نفسه، ومجتمعه وعاداته وتفكيره إنما ينقصه التحفيز والتشجيع والمجال والقيادة الموجهة لطاقاته، إنها ظلمة من ظلمات الماضي السحيق تعيشها أمة، أقول للقوم: إن الظروف والعوالم التي تحيط بشباب الأمة تقفل في وجهه أبواب الحياة دعوه ينطلق إلى أرض الله الواسعة وراء الرزق ليؤدي واجبه نحو أمته والناس أجمعين، ساعدوه على تقليم أظافر وأنياب وحش التخلف، إذا كنا نعني بالشباب معناه الحق فهو الذي يعكس الحياة الصحيحة، إنه يمثل الضوء الذي يغمر شؤون الحياة، لذلك لا نرى انفكاكا بين الشباب والحياة، فروح الحياة الشباب، وعلى من يحب الأمة أكثر، أن يأخذ المبادرة، وإلا بقينا في حلقة مفرغة نترقب أن تأتي النجدة من الآخر، والآخر يتشفى فينا لما نحن عليه من حرمان قائم وخوف فيطول عذابنا ويفوتنا ركب التقدم.

يتبع في العدد المقبل..

أرسل تعليق