Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

تعليق واحد

التوحيد والعدل

      قال الله تقدست أسماؤه: “الَّذِينَ ءامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ اَولَئِكَ لَهُمُ الاَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ” [سورة الاَنعام، الآية: 82].

      وقال جل شأنه: “لَقَدْ اَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ” [سورة الحديد، الآية: 25].

      بينت فيما سبق أن مقصود التوحيد في الإسلام حفظ إنسانية الإنسان من كل أشكال الانتقاص والهتك التي يتسبب فيها عاملان أساسيان هما: الطغيان والاستضعاف. وقلت إن برنامج الإسلام العقدي والثقافي والاجتماعي والسياسي هو التزام الخط الوسط بين الطغيان والاستضعاف؛ وأن ذلكم لا يتحقق إلا بتربية الإنسان الذي يأمر بالعدل؛ وهو على صراط مستقيم.

      والقرآن يطلق على الأقوياء الذين يغتصبون الممتلكات والحريات اسم الطغاة. وقد تكرر لفظ الطغيان ومشتقاته في تسعة وثلاثين موضعا من القرآن. وبالمقابل؛ أطلق على الشعوب التي رضيت بهذا الاغتصاب، وأذعنت له اسم “المستضعفين” كما قال سبحانه: “اِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الاَرْضِ” [سورة النساء، الآية: 97]، وقال: “وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اَسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اَسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ” [سورة سبأ، الآية: 31].

      فواضح أن القرآن يدين الفريقين معا؛ ويصم كلا منهما بالظلم؛ على أن الطغاة يظلمون غيرهم، والمستضعفين يظلمون أنفسهم.

      فنبذ الطغيان، وتحقيق العدل -إذن- هدف رئيس في هذه الرسالة. ومن أجله أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل، واستخلف الإنسان، وأرشده إلى الميزان؛ ليكون الوسيلة المعيارية والتنفيذية للعدل في مختلف ميادين الحياة العملية، وأنزل الحديد لتصنع منه القوة التي تحرس العدل، ولتقام منه الصنائع والعلوم والخبرات والسياسات النافعة التي ترتقي بحياة الناس في خط العدل: “لَقَدْ اَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ اَلنَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ” [سورة الحديد، الآية: 25]؛ فيدخل في معنى الحديد في الآية وسائل القوة السياسية التي تقيم العدل، وتحمي الحق.

      ولعظم العدل في أصول هذه الرسالة وأحكامها؛ قرن الله عز وجل بين جريمة الذين يكفرون بالله ويقتلون الأنبياء، وجريمة الذين يقتلون الذين يأمرون بالعدل من الناس، فقال جل وعلا: “إِنَّ اَلََّذِينَ يَكْفُرُونَ بِئاَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ اَلَّذِينَ يَامُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ اَلنَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ اَلِيمٍ  اَولَئِكَ اَلَّذِينَ حَبِطَتْ اَعْمَالُهُمْ فِي اِلدُّنْيَا وَالْاَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ” [سورة اَل عمران، الآية: 21-22]، وقال: “اََرَاَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ” [سورة الماعون، الآيات: 1-3]. فجعل آية التكذيب بالدين أمثلة صارخة من الظلم الاجتماعي والتي  تتشخص في قهر اليتيم واستضعافه، وإهمال حقوق الذين لم يبلغوا حد الكفاية في العيش.

      وقد سئل سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن بعض متعلقات اليتم في هذه الآية؛ فأجاب قائلا:”وكتبت تسألني متى ينقضي يتم اليتيم؟ فلعمري إن الرجل لتنبت لحيته، وإنه لضعيف الأخذ لنفسه، ضعيف العطاء منها، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس، فقد ذهب عنه اليتم”.

      فكل إنسان لم يستطع الوصول إلى حقه، والانتصاف من خصمه؛ فهو يتيم. وكذلك الشعوب والمجتمعات المستضعفة التي سلبت حرياتها، واستُنزِفت أرزاقها ومقدراتها، ولم تستطع حماية بيضتها، واستثمار طاقاتها ومواردها؛ فهي أضيع من الأيتام.

      ولقد عرف الحكماء العدل بأنه “وضع الشيء في موضعه”، وأن الظلم -بالمقابل- هو وضع الشيء في غير موضعه. ولذلك كان العدل أم الحسنات والأعمال الصالحة، والظلم أصل السيئات والآفات المحظورة.

      وفي القرآن والسنة توجه عام للأمر بالعدل، والحث عليه، والتنويه به، وتبشير العادلين المقسطين بنصيبهم الأوفر، وحظهم الأكبر من نعيم الدنيا والآخرة. كقوله صلى الله عليه وسلم: “الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا” [مسند أحمد]..

      وقال: “سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ” وذكر منهم: “إِمَامٌ عَادِلٌ” [أخرجه البخاري ومسلم].

      وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِلٌ، وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَشَدَّهُمْ عَذَابًا إِمَامٌ جَائِر” [رواه الترميذي].

      وقال: “ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِر،ُ وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا فَوْقَ الْغَمَامِ وَتُفَتَّحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ” [سنن ابن ماجه، كتاب الصيام].

      وقال سعد بن عبادة: “يومٌ من إمامٍ عادل خير من عبادة ستين سنة” [رواه الطبراني في الأوسط].

      وكانت وصية الخليفة الفاروق -الذي إذا ذكر ذكر معه العدل- عند مماته أنه قال: “يا معشر المسلمين إني لا أخاف الناس عليكم، وإنما أخافكم على الناس، وإني قد تركت فيكم اثنتين ما تبرحون بخير ما لزمتوهما: العدل في الحكم، والعدل في القسم”.

      نعوذ بك اللهم أن نضل أو نضل، أو نظلم أو نظلم، أو نجهل أو يجهل علينا، أو نكتسب خطيئة أو ذنبا لاتغفره آمين، والحمد لله رب العالمين.

التعليقات

  1. عبد السلام أجرير

    بسم الله الرحمن الرحيم
    والصلاة والسلام على محمد وآله
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
    بداية، الشكر متجدد للدكتور والشيخ عبد الحميد عشاق على هذه الومضات النورانية في طريق "الرقي بالنفس".
    وثانية، إن الناظر في مقاصد الإسلام التي نبهنا الشارع إليها إما بالصريح أو بالإيماء يجد أن الإسلام – وهو الفطرة ومنهج الحياة القويم – يقصد دائما الاعتدال والتوسط في كل شيء بدون إفراط ولا تفريط.
    وكلمة "العدل" تحمل هذا المعنى، فالعدل هو الاستقامة على النهج الصحيح والسبيل السوي الذي يوصل إلى الهدف بدون مخاطر ولا منزلقات.
    وفي معنى قوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا…" قال المفسرون: أي: عدولا. فالعدل هو المطلوب سواء أكانت النفس محبة له أم كارهة له.
    وقد فهم بعض الناس أن الوسطية والاعتدال هو الأخذ بأيسر الأمور أو التوسط بين قوة مشقة التكليف والتفلت منه، هذا صحيح في المعنى العام، لكن العدل أو الوسطية هو الأخذ بالمنهج القويم كما أُمرنا سواء أكان فيه شدة على النفس أم فيه يسر عليها. وشرع الله دائما فيه يسر بالنظر إلى المآل.
    وقد شدّ انتباهي قول الأستاذ: "…الإنسان الذي يأمر بالعدل؛ وهو على صراط مستقيم" وهو وصف مقتبس من قوله تعالى: "ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يات بخير هل يستوي هو ومن يامر بالعدل وهو على صراط مستقيم" [سورة النحل]. فهذان الوصفان: الأمر بالعدل والتزام الصراط المستقيم هما طريق الوسطية والاعتدال وسبيل التغلب على الطغيان والاستضعاف.
    والله أعلم.

أرسل تعليق