Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

ابن زاكور الفاسي.. (2)

يقول ابن زاكور في “نشر أزاهر البستان فيمن أجازني بالجزائر وتطوان” في حق أستاذه الكبير اليوسي: “وأما حبر الأحبار، وجهينة الأخبار، وزين القرى والأمصار، العديم النظير في سائر الأقطار، من أسعد بمطالع أنواره كواكب نحوسي، مولاي أبو علي سيدي الحسن بن مسعود اليوسي، أطال الله مدته، وحمى من نوائب الحدثان حوزته. فقد ورد في شوال سنة خمس وتسعين هذه الحضرة (يعني مدينة فاس حرسها الله) وأعارها بقدومه ابتهاجا ونضره.. فأقام بها أياما، ونقع بها لكل ظمآن إلى رؤيته أواما، وأعاد نيران الجوانح على الأفئدة بردا وسلاما، فلازمت منه بحرا زاخرا، ونظمت من نفيس فوائد لؤلؤا فاخرا، وتأثلت من أسراره في تلك المدة ما أعددته لنوائب الأيام عدة”.

ومن منظور آخر نستشف في هذا المضمار أحد المكونات المعرفية والإنسانية عند صاحبنا ابن زاكور في قوله في “نشر أزهار البستان، ص: 2″: “وبعد؛ فإن الرحلة منة من الله ونحلة، تكسب الغليظ الطباع غاية الرقة والانطباع، وتعقب من كابد لها نصبا علما غزيرا وأدبا.. “، ولذلك غرم بالرحلة منذ صغره، يشهد على ذلك رحلته الطويلة من فاس إلى تطوان، ثم إلى الجزائر، التي ما كاد يعود منها ويستقر به المقام في مدينة فاس، حتى باشر السفر من جديد لزيارة بعض مناطق المغرب كمراكش وسلا، ومكناس، وزرهون، والعرائش وصفرو، زيادة على تطوان التي كان يتردد عليها بشكل منتظم، وهي التي ستشكل جزءا مهما في حياته العلمية كما يتبين من “نشر أزاهر البستان فيمن أجازني بالجزائر وتطوان“.

من مؤلفات ابن زاكور نذكر “الاستشفاء من الألم في التلذذ بذكر صاحب العلم” (في نسب المولى عبد السلام بن مشيش)، و”نشر أزاهر البستان فيمن أجازني بالجزائر وتطوان من فضلاء الأكابر والأعيان”، وهي فهرسته التي ذكر فيها شيوخه في الجزائر وتطوان، وبعض شيوخه في فاس، و“المعرب المبين عما تضمنه الأنيس المطرب وروضة النسرين”، وله:الحلة السيراء في حديث البراء“، و “معراج الوصول إلى سماوات الأصول“، و”الدرة المكنونة في تذييل الأرجوزة“، وهي تذييل لأرجوزة ابن سينا في الطب”، و “الروضة الجنية في ضبط السنة الشمسية“، وهي أرجوزة في التوقيت، وحساب أيام العام، و الروض الأريض في بديع التوشيح ومنتقى القريض“، وهو ديوان شعر، و “أنفع المسائل في أبلغ الخطب وأبدع الرسائل، و عنوان النفاسة في شرح ديوان الحماسة، و “تزيين قلائد العقيان بفرائد التبيان“، و “الجود بالموجود في شرح المقصور والممدود” (لابن مالك)، و “تفريج الكرب في شرح لامية العرب“، و “النفحات الأرجية، والنسمات البنفسجية بنشر ما راق من مقاصد الخزرجية” (في علم العروض)؛ و “الصنيع البديع في شرح الحلية ذات البديع“، بديعية صفي الدين الحلى..

يقول محقق كتاب “تزيين قلائد العقيان” بوشتى السكيوي أن هذا الكتاب النفيس من أهم مؤلفات ابن زاكور الأدبية إلى جانب كتابه “عنوان النفاسة في شرح ديوان الحماسة” و “الصنيع البديع في شرح الحلية ذات البديع“، وموضوعه كما يشير عنوانه وتوضح مقدمته، هو شرح وتوضيح لبعض القضايا الأدبية واللغوية الغامضة، وتبيين الإشارات الخفية والتلميحات البعيدة الغور، الواردة في كتاب قلائد العقيان، لأبي نصر الفتح بن خاقان، الأديب الأندلسي المشهور، المتوفى سنة (529هـ) التي لا يستطيع القارئ أو الأديب المبتدئ أن يفهم معانيها، ويتبين خفاياها، إلا إذا فصلت تلك القضايا الموجزة وفسرت تلك التلميحات السريعة، وردت المعاني إلى أصولها، وذكرت مناسباتها، وعزز كل ذلك بالشواهد الضرورية.

وقد أشار ابن زاكور إلى هذا كله في مقدمة الكتاب فقال: “فهذا ما دعت إليه ضرورة قلائد العقيان، من تفسير وتبيان، وتقرير ما يتوقف عليه ارتشاف معانيه، من ثغور مبانيه، على طريقة المحققين من الأعيان. وربما طمح طرف الاستحسان في نظره، فلمح بعض أصل فقره، وما انخرط في سلك المنظوم من منثور درره، لا جرم أن ذلك يجب التنبيه عليه مع نسبة ما علم مبتكره إليه، وذكر ما خلفه أن علم وما بين يديه. لا سيما أن كان ذلك من كلام العرب، واشتمل على ما يدعو إلى الطرب، من المعاني اللطيفة التي هي أحلى من الضرب؛ فإن ذلك من الأهم الذي قد وجب، على كل ما انتسب إلى الأدب، وابتدر إلى نيل المعاني وانتدب، ورجا أن يشور شهاد النخب وقصد أن يتبوأ أسنى الرتب، ومما ينبغي أن يغتنم كل ما له سبب، وينخرط في هذا السلك تفسير ما لمح إليه، ووقع طرف تطريفه عليه، من مثل سائر، أو شعر منجد غائر، أو قصة غريبة وقعت في الزمن الغابر”.

وعليه فإن فقيمة هذا الكتاب –كما يرى محققه الأستاذ بوشتى السكيوي- توازي قيمة المصادر الأدبية واللغوية الأصيلة مثل الكامل للمبرد، وكتاب عيون الأخبار لابن قتيبة، وكتاب الأمالي لأبي علي القالي، لا من حيث الدقة العلمية، ولا من حيث توثيق النصوص، والاعتماد على المصادر الأصيلة فحسب، بل قد يفوقها ويتميز عنها بذلك الأسلوب النقدي التحليلي الذي صيغ به، والذي تبرز من خلاله بصورة واضحة شخصية ابن زاكور العالم الكبير، والأديب البارز، ذي الثقافة الموسوعية. وإن تزيين قلائد العقيان يعد قراءة نقدية عميقة وواعية لكتاب القلائد، ومن ثم فهو مصدر أساسي لا غنى عنه لمن أراد تحقيق هذا الكتاب النفيس والعويص في نفس الآن، لأن ابن زاكور سلك فيه منهج المحققين ودقتهم في تناول قضاياه وشرحها، فهو يُعرف بكثير من الأسماء الواردة في كتاب بن خاقان، لاسيما التي تتعلق بالأخبار القديمة.. كما يوازن بين نسخ القلائد ويعارض بعضها ببعض قبل ترجيح رواية على أخرى، أو تثبيت قراءة معينة..

ويفيدنا الأستاذ بوشتى السكيوي في مقدمة تحقيقه لكتاب “تزيين قلائد العقيان” أن لهذا الكتاب قيم جليلة أخرى، تتمثل فيما نقله مؤلفه فيه من نصوص قيمة، إما ضاعت أصولها، أو تُعد في حكم المفقود حتى الآن، والأمثلة على ذلك كثيرة في ثنايا الكتاب منها، نص تاريخي مهم يتعلق بالأمير هشام المؤيد مع العالم اللغوي أبي بكر الزبيدي أستاذه، وصاحب النص هو أبو بكر بن مفرج القبشي، صاحب كتاب الاحتفال في تاريخ أعلام الرجال، وهذا الكتاب مفقود، وآخر يتعلق بالقاضي أبي محمد عبد الله البطريوال.

وتجدر الإشارة أن كتاب “تزيين قلائد العقيان” ذو فائدة أنثربولوجية وهو غاية في الأهمية؛ لأنه مصدر يستطيع الباحث من خلاله أن يتلمس سمات الثقافة المغربية في عصر مؤلفه ابن زاكور، كما يستطيع الإطلاع على منهج العلماء المغاربة في هذه الفترة في التعامل مع التراث العربي القديم، وعلى مدى تمثلهم لبنيات الثقافة العربية واستيعابها سواء في المشرق أم في الأندلس، كما يعد عملا نقديا رائدا في وقته.

توفي العلامة محمد بن زاكور في سن مبكرة وهو لم يتجاوز الأربعين من عمره، ومنه ندرك المباركة التي أضفاها الله تعالى على عمر هذا الفاضل النابغة الذي رفع رأس المغرب عاليا، رحمه الله وجازاه عن المغرب والإنسانية خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه..

أرسل تعليق