Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

أفعال القلب العقلية

إن الأصل الفطري العقل بما يشتمل عليه من مبادئ فطرية، وقواعد كلية، وحقائق بديهية، يزداد رسوخا عن طريق الاكتساب العلمي والتدريب العملي ويكون أساسا للأفعال العقلية المختلفة، التي تعتمد عمل الحواس، وأهمها:

1.فعل الكف

وهو من أبرز العمليات العقلية، حيث إن معاني المنع والامتناع والحبس والكف واضحة في المدلول اللغوي لكلمة عقل: تقول عقلت فلانا عن كذا؛ أي منعته عنه وصددته، ومنه عقال البعير؛ لأنه يحبسه عن الشرود، ومنه العقل؛ لأنه يحبس صاحبه عن فعل ما لا يحسن ولا يجمل، ومنه عقلت الكلام ومعناه: إذا حبسته في صدرك وحصلته في قلبك بعد أن لم يكن حاصلا عندك. ومنه العقل للدية؛ لأنها تمنع آخذها من العدوان على الجانبي وعصبته [1].

فمن وظائف القلب أن يمنع النفس من اتباع الشهوات، اعتبارا لما يؤدي إليه الجري وراءها من تعاسة دنيوية وشقاء أخروي. وهو عندما يستحضر هذه النتائج ويدفع إلى الكف عن أسبابها، يقوم بوظيفة من وظائفه البارزة وهي العقل أو التعقل.

2. فعل الضبط

والمقصود بالضبط إمساك المعلومات واستذكارها عند الحاجة وهو ما يعرف بالذاكرة. ولقد ثار خلاف قديم حديث حول مكان الذاكرة في الذات الإنسانية هل هو القلب أم الدماغ.

فالقرآن الكريم أشار إلى وجودها في الصدر كناية عن القلب: (اَفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور، وحصّل ما في الصدور، إن ربهم بهم يومئذ لخبير) [سورة العاديات/الآيات: 9- 11]

وبين أن الإنسان يحتفظ في قلبه بنواياه وعزائمه وعقيدته (وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون) [سورة القصص/ الآية: 69].

لكن بعض العلماء ذهبوا مع ذلك إلى القول بوجود العقل في الدماغ، فالإمام ابن تيمية يرى أن العقل ما دام متعلقا بالقلب الذي هو باطن الإنسان مطلقا، فإنه لا يبعد أن يتعلق أيضا بدماغه [2] .

 وهذا الكلام ينسجم مع فرضية وجود الذاكرة في الدماغ باعتبارها من العمليات العقلية البارزة. ويقوي هذا الاتجاه بعض التجارب العلمية التي أجريت على الدماغ. ففي سنة 1933 اكتشف بنفيلد Penfield بمحض الصدفة أن تنبيه مناطق معينة في الدماغ بالكهرباء تنبيها خفيفا يحدث استرجاعا فجائيا للذاكرة عند المريض الواعي [3].

والذي يمكن استخلاصه من سوق هذه المعلومات أن الذاكرة القلبية تتولى حفظ المعنويات كالنوايا والعزائم وغيرها من أفعال القلب كالرضا والسخط والحب والكره والشكر والذم… في حين تتولى الذاكرة الدماغية حفظ ما يرتبط بهذه الأفعال من الصور والأصوات والأشكال المادية.

 فمن معاني العقل التذكر. روى عن عبد العزيز بن رفيع أنه قال: “سألت أنس بن مالك -رضي الله عنه- قلت: أخبرني بشيء عقلته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أين صلى الظهر والعصر يوم التروية؟ قال  بمنى؟…”[4] .

ومن معانيه أيضا الفهم؛ لأنه متضمن للضبط والحفظ قال الحارث بن أسد المحاسبي: “والعرب إنما سمت الفهم عقلا؛ لأن ما فهمته فقد قيدته وضبطته بعقلك” [5].

وإذا كان تفاوت الناس في قوة الذاكرة مما لا يخفى، فإن مرجع ذلك بالأساس إلى حال الذاكرة الدماغية، التي تحكمها قوانين الوراثة وتعتريها العاهات المختلفة.

3. فعل الربط

يكتسب القلب المعلومات الجديدة من خلال ما تنقله إليه الحواس فيعقلها بتبين العلاقات الرابطة بين هذه المعلومات والمعلومات السابقة، والعلاقات القائمة في الموضوع الواحد، وعلاقات الأشياء المختلفة بعضها ببعض، وتصنيفها إلى علة ومعلول ودليل ومدلول، وأصل وفرع، وكل وجزء، وعام وخاص… مما يمكن إدراجه ضمن “قدرة التدبر” والتي “اقترنت الإشارة إليها -في القرآن- بالقدرة على الربط بين المقدمات والنتائج واكتشاف الأسباب التي أدت إلى هذه النتائج. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: (اَفلا يتدبرون القرءان ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثير)[6] .

ويقوم مفهوم الارتباط هذا على ثلاثة قوانين أساسية هي: الاقتران، التشابه، والتضاد [7]. فعملية الربط العقلية تتم إما بناء على اقتران الشيء المعقول بغيره من الأشياء بصيغة معينة من صيغ الاقتران العديدة، أو على تشابه بينه وبين غيره بشكل معين، أو على تضاد بينه وبين أشياء أخرى.

ويدخل كذلك في مدلول العقل والتعقل ارتباط العلم بالعمل اللازم له. قال ابن تيمية: “وكذلك لفظ العقل وإن كان هو في الأصل مصدر عقل يعقل عقلا، وكثير من النظار جعله من جنس العلوم، فلابد أن يعتبر مع ذلك أنه علم يعمل بموجبه، فلا يسمى عاقلا إلا من عرف الخير فطلبه، والشر فتركه، ولهذا قال أصحاب النار: (لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) [8].

ولقد استطاع الإنسان بإتقانه لفعل الربط أن ينتج معارف عديدة ويكتشف أسرارا كثيرة من قوانين الكون والمادة ويسخرها في مآربه تسخيرا. وتبقى أسمى معرفة يتوصل إليها بعملية الربط العقلية، هي معرفة الله الواحد الصمد: (إن في خلق السموات والاَرض واختلاف اليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الاَرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والاَرض ءلايات لقوم يعقلون) [ سورة البقرة/الآية: 163].

 قال الإمام ابن جرير الطبري: “فأما معنى (لآيات) فإنه علامات ودلالات على أن خالق ذلك كله ومنشئه إله واحد. (لقوم يعقلون) لمن عقل مواضع الحجج وفهم عن الله أدلته على وحدانيته” [9].

فلا مجال للصدفة أو العبثية في نظام الكون والكائنات، وإنما لكل مسبب سبب هو بدوره مسبب لسبب آخر. وإلى الله تعالى مرد الأسباب كلها، يصرفها بحكمة وتقدير، وعلى هذا الترتيب يقوم القلب بعمليات الربط العقلية ما لم يمنعه الهوى أو تعطله الغفلة.

4. فعل الفكر

إن فعل الفكر هو استعمال القلب لمختلف العمليات العقلية وأهمها “ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول” [10]، فتذكر المعلومات الضرورية وتوظيفها في التحليل والتركيب والربط والاستنتاج. قال الله تعالى: (اِن في خلق السموات والاَرض واختلاف اليل والنهار ءلايات لأولي الاَلباب، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والاَرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) [سورة ال عمران/ الآيتان: 190- 191].

وأولو الألباب هم الذين يستعملون عقولهم في تأمل الدلائل، والاستدلال بها على مدلولها، واستغراق القلب في ذلك؛ لأن “الفكرة تردد القلب في الشيء”[11] . وإذا كان شرط كمال العبادة انشغال القلب بالله خلالها، فإن التفكير في آياته وما يؤدي إليه من تذكير مستمر يعد من أفضل العبادات لأن “التذكر والتفكر منزلان يثمران أنواع المعارف وحقائق الإيمان والإحسان. والعارف لا يزال يعود بتفكره على تذكره، وبتذكره على تفكره، حتى يفتح قفل قلبه بإذن الفتاح العليم”[12] .

وعندما تضاف كلمة فكر إلى شخص يكون المقصود ما يغلب على اهتمامه وسلوكه، ويحدد اتجاه فكره وطبيعته الخاصة به، والتي تتأثر بنفسيته وخصوصياتها الاعتقادية وانشغالاته العملية داخل البيئة الاجتماعية.

ويبدو هذا واضحا أكثر في الفكر الجماعي الذي تساهم في وضع ملامحه عدة عوامل، منها الإرث التاريخي والديانة السائدة والعادات والأعراف الجارية، فكل ذلك يصنع للجماعة فكرها المتميز، ويمارس تأثيرا قويا على عقلية الأفراد ونمط تفكيرهم.

إن عرب الجاهلية لم يكونوا يشعرون قط بأن عبادتهم للأصنام منافية لمنطق العقل والفطرة ونظام الكون الموحد وسننه المطردة، بل إن طائفة عريضة منهم أصرت على شركها وانحراف فكرها واعتقادها حتى بعد أن جاءهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  هاديا ومرشدا إلى التوحيد، ونبذ معبودات الأجداد الخرافية.
وكذلك كانت من قبل ومن بعد جميع الأمم يسلك فكرها نهجا معينا فيصبح منطقها الخاص الذي تنظر

من خلاله إلى قضايا الحياة.

وإذا تأملنا خصائص الفكر الذي ترعرع في رحاب العقيدة الإسلامية نجد أن “أثر الدين كأحد المعطيات الحضارية، لا يقتصر على وحدة التفكير واتجاهه، بل يتعدى إلى نوع المصطلحات، التي يفرضها على الناس، ودلالة تلك المصطلحات في البيئة الإسلامية، يفترض أن تكون لمصطلحات من مثل: الخلافة، البيعة، الشورى، الجهاد، البركة، الفقراء… الزكاة، وغيرها كبير أثر، في تركيبة وتكوين عقلية الأفراد” [13].

ففعل القلب الفكري يتفاعل إلى حد كبير مع جميع معطيات البيئة المحيطة ومكوناتها الثقافية المختلفة ويتلون بلون العوامل والمؤثرات الغالبة فيها، كما يتأثر بحال الجسم ومتغيراته الوراثية والمكتسبة.

———–

1. مدارج السالكين، مرجع مذكور، ج 3 ص: 91.
2. انظر مجموع الفتاوي، مرجع مذكور، ج 9 ص: 304.
3. روبرت.م. أغروس و جورج ستانسيو، العلم في منظوره الجديد،  ترجمة كمال خلايلي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 134، 1989 ص: 35.
4. صحيح البخاري، الحج، باب أين يصلى الظهر يوم التروية.
5. انظر مفهوم العقل والقلب، مرجع مذكور، ص 27.
6.ماجد عرسان الكيلاني، مقومات الشخصية المسلمة، كتاب الأمة عدد 29 ط 1 ص: 53.
7. د. عبد الرحمن الطريري العقل العربي وإعادة التشكيل، كتاب الأمة، عدد  د.ت.35 ص: 38.
8. كتاب الإيمان، مرجع مذكور، ص: 24.
9. ابن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل القرآن، دار الفكر، بيروت، 1408-1988 ج 2 ص: 65.
10. كتاب التعريفات، مرجع مذكور، ص: 168.
11. الجامع لأحكام القرآن، مرجع مذكور، ج 4 ص: 200.
12. مدارج السالكين، مرجع مذكور، ج 1 ص: 441.
13. العقل العربي وإعادة التشكيل، مرجع مذكور، ص: 46.

أرسل تعليق