Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

هوادي التعرّف (41)

التصوف على “طريقة الجنيد السالك” حَسب ما سُطِّر في منظومة فقيه القرويين ابن عاشر، ووِفق ما تَوارث في الأمة، يتقعّد على ثمانية شروط ومبادئ: 

المبدأ السادس في طريق التصوف: الإكثار من الذكر (4): والذكر يكون باللسان وبالقلب، وأوله يقع النطق به باللسان، ويُؤجَر عليه الناطق ولو لَم يستحضر المعنى، فعن عبد الله بن بشر قال: “جاء أعرابي فقال: يا رسول الله! كثُرت عليَّ خِلالُ الإسلام وشرائعه، فأخبرني بأمر جامع يكفيني، قال: عليك بذكر الله تعالى، قال: ويكفيني يا رسول الله! قال: نعم ويفضل عنك”[1]، وفي رواية الترمذي: “يا رسول الله، إنَّ شرائع الإِسلام قَدْ كَثُرت عليَّ، فأخبرنِي بِشيْءٍ أتشبَّث بِه، قَالَ: لا يزال لِسانُك رَطبًا مِنْ ذكْرِ اللَّهِ”.

فدوام الذكر سُلَّم ومعراج وسلوك إلى الله تعالى، وفي هذا المعنى يُردِّد الصوفية قول ابن عطاء الله السكندري في حِكَمه: “لا تترك الذكر لِعَدم حضور قلبك مع الله تعالى فيه لأن غفلتك عن وجود ذكره،أشدُّ من غفلتك في وجود ذكره، فعسى أن يرفعك (الله) من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غَيْبَةٍ عما سوى المذكور، وما ذلك على الله بعزيز”[2].

فلا ينبغي إذاً أن يهمل ذكر الله باللسان؛ لأن له نسبة في العبودية، وهو الحضور بالصورة إذا لم تكن بالمعنى، عِلما بأن الذكر النافع والمؤثر هو مع حضور القلب، وأما الذكر باللسانِ، والقلبُ غافل لاه فهو قليل الجدوى. 

فالذكر يكون باللسان أو بالقلب، أو بهما معاً كما دلت على ذلك عدة نصوص؛ إذ بذكر القلب يتجدد الخشوع والانشراح والاطمئنان والوجل.. ويزداد يقينه، ويكون إلى التقوى أقرب، وعن المعاصي أبعد.

لذلك، وعلى الوجه الأكمل نبه المصنف بقوله: “بصفو لبه”، أي: بخالص قلبه، إلى الذكر باللسان مع حضور القلب، أي التفكر في المعنى واستحضار عظمة الله تعالى، وهذا موقوف على صفاء الباطن وتنويره.

قال الشيخ أبو عبد الله الساحلي في “بغية السالك“: “الذكر باعتبار الذاكرين على قسمين:

  • ذكر أجور، وهو ذكر العامة؛
  • ذكر حضور، وهو ذكر الخاصة.

أما ذكر الأجور: فهو أن يذكر الإنسان الله تعالى بما شاء من الأذكار، لا يقصد به إلا نيل ما وعد الله الذاكرين من الأجر وأعد لهم من الثواب، من غير التفات لما وراء ذلك. فهذا راتع في رياض الجنة وأجره ثابت على قدر نيته؛

وأما ذكر الحضور: فهو التزام أذكار معلومة بحسب أحوال مخصوصة، على سبيل الاستشفاء من علل النفس، والخلاص من أمراض متعلقاتها، ليخرجها عن الأخلاق الذميمة، ويحليها بالأخلاق الحميدة، وهو على ثلاثة أقسام:

  • ذكر اللسان: في مقام الإسلام. ونعني بذكر اللسان، قيام اللسان بحركة لفظه، مع متابعة القلب لما أمكن من معناه؛
  • وذكر القلب: في مقام الإيمان؛ ونعني بذكر القلب، تمكن معنى الذكر في القلب حتى لا ينفك عنه، مع متابعة اللسان لما أمكن من لفظه؛
  • وذكر الروح: في مقام الإحسان. ونعني بذكر الروح، الاستغراق في سر التوحيد، مشرفا على حقائقه بما نال الروح من الخلاص من الأوهام الجسمانية والطهارة من الآفات الطبيعية، حتى لا يغيب عن معنى الذكر لمحة، وإن كان اللسان متحركا..”[3].

ومن شروط الذكر وكمالاته عند الصوفية الكرام[4]، والتي بها يحصل للذاكر سير وترقٍّ من اللسان إلى معاني الجنان:

  • الطهارة: لأن التوجه إلى الله بالذكر والاستغفار ينبغي أن يكون على أكمل الأحوال وأشرفها؛ ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: سَلَّم عليه رَجُل، فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه وقال: “إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر، أو قال: على طهارة[5]، فلا شك أن أسرار الطهارة تعود على باطن الذاكر والمستغفر بالصفاء والتنوير؛
  • استقبال القبلة: لأن الذاكر يناجي ربه، فينبغي أن يكون منتصبا إلى بيت الله وحرمه؛ قال عليه الصلاة والسلام: “خير المجالس ما استقبل به القبلة[6]، فلا شك أنّ جَــمْع الهمة في استقبال القبلة يعود بالنفع على صرف الباطن إلى الله تعالى، وجمع الفكر في مناجاته.
  • الخلوة: لما فيها من تحصين الفكر والنفس عن الشواغل، وتهيئتهما إلى الإقبال على معاني الذكر، فمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجل ذكر الله عز وجل خاليا ففاضت عيناه[7]. فالذكر يدور على اللسان ليؤثر معناه في النفس والجنان نفحات إيمانية..

يتبع في العدد المقبل..

———————————————

1. سنن الترمذي، كتاب الدعوات، ح: 3375.

2. انظر “إيقاظ الهمم في شرح الحِكم” لسيدي ابن عجيبة.

3. بغية السالك في أشرف المسالك للساحلي، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، ط 2003م، (1/145-146).

4. نجد هذه الشروط والكمالات في العديد من المؤلفات الصوفية، انظر على سبيل المثال: بغية السالك، (1/188).

5. أخرجه الحاكم في المستدرك، ح:609، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذا اللفظ، إنما أخرجه مسلم من حديث الضحاك بن عثمان عن نافع بلفظ آخر.

6. أخرجه الحاكم في المستدرك، ح: 270.

7. صحيح البخاري، ح: 624، صحيح مسلم، ح: 1718.

أرسل تعليق