Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

نظرات في التحدي التربوي.. (4)

عرض القرآن لثلاثة أمثلة من قصص الأنبياء فيها عبرة ودرس في ميدان التربية الأسرية، وهي: مثال قصة نوح عليه السلام وابنه، وهي قصة العصيان، وابتلاء الآباء بعقوق الأبناء وفساد مسلكهم، وانحرافهم عن الجادة “وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَأوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ اَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ” [هود، 42-43] .

والمثال الثاني قصة إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، وهي قصة الطاعة، وأنموذج الحب والتربية والاهتمام والثقة المتبادلة بين الأب وأولاده: وعندما ندرس أو نتأمل شخصية إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم ترتسم في أذهاننا شخصية الإنسان الذي يبذل كل طاقاته في أن يجعل حياته كلها لله، ولعل هذا الذي أهله للإمامة في دين الناس، ولمرتبة الخلة الإلهية.

وهذه المرتبة أعلى درجات المحبة والعلاقة بين الإنسان وربه، “قَدْ كَانَتْ لَكُمْ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَذِينَ مَعَهُ” [الممتحنة، 4]، ومن الطبيعي أن نلاحظ أن إبراهيم الذي عاش لله تبارك وتعالى بملء قلبه ووعيه ووجدانه وسلوكه في الحياة، عمِل على أن يقوم بحركة تربوية عميقة في محيطه الخاص، بحيث يستطيع أن ينقل هذا الإسلام الروحي العميق -الذي عاشه مع الله عز وجل- إلى أولاده وإلى الناس كافة، وهذا ما أخبر به القرآن في قوله تعالى: “وَأوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اَصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ” [البقرة، 131].

فقد كان الإسلام عنوان الخط التربوي الذي أراد إبراهيم عليه السلام لبنيه ولهذه الأمة وللعالم، أن يتمثلوا الدين من خلاله.

وعندما نقرأ قوله تعالى: “فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ” [الصافات، 101]، نجد أن إبراهيم كان يتطلع إلى ولد بعد طول انتظار، فرزقه الله غلاما حليما برا طيبا كريما، لا يغل على أحد، ولا يغتاظ من أحد، “فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ” [الصافات، 102]، وهذه الآية توحي بأن إسماعيل كان ملازما لأبيه ملازمة الظل لصاحبه في المدة التي قضاها معه، وهذا شيء معلوم من الإنسان الشيخ الكبير حينما يرزق ولدا كريما  بعد يأس، ويبدو أن إبراهيم أعطى كل إيمانه لربه، وكل علمه بمقومات النبوة وشرائطها، وكل تجربته الروحية والعملية، كل ذلك أعطاه لولده إسماعيل، بحيث تحول الولد إلى حالة إسلامية كاملة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

ثم جاء الابتلاء الذي أراد الله عز وجل منه أن يعلمنا من خلاله القدوة في أعلى  صورها ومستوياتها في معنى الإسلام لله، حين طلب من الأب أن يذبح ولده، وطلب من الابن أن يذبح شعوره تجاه نفسه وحياته “قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُومَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ” [الصافات، 102-103]، فلما “أسلما” هذا هو المقصود والهدف، ومعنى هذا أن إبراهيم عليه السلام قد نجح في أن يربي ولده على درجة عالية من الإسلام الذي يفقد فيه الإنسان إحساسه وغرائزه أمام إرادة الله تعالى، استطاع إبراهيم عليه السلام أن يرفع درجة هذا الولد عند الله سبحانه وتعالى، وأن يقربه إلى ربه ليحصل على أكرم عطاء وأشرف فضل، لقد كان رسولا لولده وأهله كما كان رسولا للناس كافة، ونجح إبراهيم عليه السلام أن يصوغ شخصيات رسالية من بعده، فهو في الوقت الذي صنع شخصية إسماعيل حتى جعله رفيقا في المهمة الكبرى، وهي رفه أسس البيت، “وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ” [البقرة، 124]، “وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” [البقرة، 127]، وجعله يعيش في قلب الأجواء الروحية التي جعلت من بناء البيت حركة في الروح لا مجرد حركة في المادة، في هذا الوقت أيضا استطاع أن يصوغ شخصية إسحاق ويعقوب كذلك: “أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ ءَابَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ” [البقرة، 132].

وأما النموذج الثالث فمستوحى من طبيعة العلاقة بين الزوجين وبيان أثرها في مبادئ الأسرة وقيمها، إذ ضرب القرآن مثلا بليغا لبيان أن كلا الزوجين مرهون بعمله يوم القيامة، وأن الزوج لا يؤاخذ بجريرة زوجته، ولا تؤاخذ الزوجة بجريرة زوجها، فلكل عمله وحسابه، “ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ اَدْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ” [التحريم، 10] فلم يشفع لامرأة نوح وامرأة لوط أن كانتا تحت زوجين من عباد الله الصالحين، فلم يغنيا عنهما من الله شيئا..

وبالمقابل يحكي القرآن قصة امرأة فرعون، فقد كانت على درجة عالية من الإيمان بالله واليوم الآخر، وكان هو من الطواغيت المستكبرين في الأرض، فكفرت به وتبرأت من عمله، فقتلها فرعون بسبب رفضها الكفر ودخولها في الإيمان، فروى المفسرون أنها لما أحضرت للعذاب دعت بما حكى عنها القرآن: “رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ” [التحريم، 11]، فاستجاب الله لها.

ومما يستأنس به هنا ما أثر عن لقمان عليه السلام في كثير من كتب الرقائق والتفسير نحو قوله: “يا بني إن الناس قد جمعوا قبلك لأولادهم فلم يبق ما جمعوا، ولم يبق من جمعوا له، وإنما أنت عبد مستأجر قد أمرت بعمل، ووعدت عليه أجرا، فأوف عملك واستوف أجرك، واعلم أنك ستسأل غدا إذا وقفت بين يدي الله عز وجل عن أربع: شبابك فيم أبليته، وعمرك فيم أفنيته، ومالك مما اكتسبته وفيم أنفقته، فتأهب لذلك وأعد له جوابا، ولا تأس على ما فاتك من الدنيا؛ فإن قليل الدنيا لا يدوم بقاؤه، وكثيرها لا يؤمن بلاؤه، فخذ حذرك، وجدّ في أمرك، وتعرض لمعروف ربك، وجدّد التوبة في قلبك، وتزود للوداع والفراق قبل أن يقضى قضاؤك، ويحال بينك وبين وما تريد“.

ومن ذلك ما أثر عن علي رضي الله عنه وهو يوصي ابنه الحسن حين قال: “أي بني، أكرم نفسك عن كل دنية، وإن ساقتك إلى رغبة؛ فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا، ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا، وإياك أن توجف بك مطايا الطمع فتوردك موارد الهلكة، وإن استطعت ألا يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل؛ فإنك مدرك قسمك، وآخذ سهمك، وإن اليسير من الله تبارك وتعالى أكثر وأعظم من الكثير من خلقه، وإن كان كل منه، فاقتصد في أمرك تحمد مغبة علمك أنك لست بائعا شيئا من دينك وعرضك بثمن، والمغبون من غبن نصيبه من الله.

أي بني، لا تحدث إلا عن ثقة فتكون كاذبا، والكذب ذل، وحسن التدبير مع الكفاف أكفى لك من الكثير مع الإسراف، وحسن اليأس خير من الطلب إلى الناس، والعفة مع الحرفة خير من سرور مع فجور، والمرء أحفظ لسره، ورب ساع فيما يضره، ومن أكثر أهجر، ومن تفكر أبصر، ومن خير حظ امرئ قرين صالح، فقارن أهل الخير تكن منهم، وباين أهل الشر تبن عنهم، ولا يغلبن عليك سوء الظن؛ فإنه لا يدع بينك وبين خليل صلحا، وقد يقال من الحزم سوء الظن، وبئس الطعام الحرام، وظلم الضعيف أفحش، والفاحشة كاسمها، وإياك والاتكال على المنى فإنها بضائع النوكى، وتثبط عن خير الآخرة والدنيا، ذكِّ قلبك بالأدب كما تذكي النار الحطب، ولا تكن كحاطب الليل وغثاء السيل، كفر النعمة لؤم، وصحبة الجاهل شؤم، والعقل حفظ التجارب، وخير ما جربت ما وعظك، ومن الكرم لين الشيم، بادر الفرصة قبل أن تكون غصة، ومن الحزم العزم، ومن سبب الحرمان التواني، ومن الفساد إضاعة الزاد ومفسدة المعاد، لكل أمر عاقبة، فرب مشير بما يضر، لا خير في معين مهين، ولا في صديق ظنين، ولا تدع الطلب فيما يحل ويطيب فلا بد من بلغة”.

أرسل تعليق